للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكقولهم: إنه سبحانه هو الخالق لداعية المعصية، فيقبح أن يعاقب عليها. وكقولهم: إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه. أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة، أو سلبت عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون عن معاصيهم، وإذا تابوا فلم لا يقبل الله منهم توبتهم؟ ولم كان في الدنيا بحيث قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:

٦٠] وفي الآخرة بحيث لا يجيب دعاءهم إلا بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:

١٠٨] وأجيب بأن تعذيبهم نقل إلينا بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مصير إلى إنكاره، والشبه التي تمسكتم بها تنهدم بانهدام قاعدة الحسن والقبح. وأقول: قد بينت بالبرهان النير في المسألة الثامنة أن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى، وكل ما تقتضيه حكمته وكماله كان حسنا. ومن ظن أنه قبيح كان الخلل في عقله وقصور في فهمه، فلا قبيح في النظر إلا وهو حسن من جهات أخرى لا يعلمها إلا منشئها وموجدها. وهل يستقبح أحد وقوع بعض الأحجار للملوك تيجانا وبعضها للحشوش جدرانا، أو وقوع بعض من الحديد سيفا يتقلده الناس وبعضه نعلا يطؤها الأفراس، حيث يرى كلا منهما في مصالح الوجود ضروريا؟ ثم العذاب وهو بالحقيقة البعد من الله تعالى لازم للكفر والعصيان، والملزوم لا ينفك من اللازم. وأما سبب عدم انتفاع الكافر والعاصي بالإيمان والتوبة بعد المفارقة، فذلك أن محل الكسب هو الدنيا، والتكليف بامتثال الأوامر والنواهي إنما وقع فيها. فليس لأحد أن يؤخر الامتثال إلى الآخرة. ألا ترى أنه لو قال طبيب حاذق لمريض: اشرب الدواء الفلاني في اليوم الفلاني فقصر وأخر حتى إذا مضى وقته وأشرف على الهلاك قال: إني أشرب الآن، لم ينفعه ذلك الدواء ولا يسعه إلا الهلاك؟ وكذا لو قال ملك لواحد: افعل الأمر الفلاني في هذا الوقت ففعله في وقت آخر لم يعد ممتثلا ولا ينفعه الائتمار به لأن غرض الامتثال قد فات، ولا سيما إذا فعل بعد أن يرى أمارات الغضب وعلامات العذاب فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [غافر: ٨٥] . صدق الله العظيم.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٦]

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>