بنقصانه وقد ذاق لذة الكمال بقي في القلق وألم الطلب ولا سبيل له إلى دفع هذا القلق والألم إلا الموت فحينئذ يتمنى الموت. ومنها أن سعادات الدنيا ولذاتها سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها، ثم إنها مخلوطة بالمنغصات والأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كانت حصة الأراذل أكثر فلا جرم يتمنى العاقل موته ليتخلص من هذه الآفات. ومنها أن اللذات الجسمانية لا حقيقة لها لأن حاصلها يرجع إلى دفع الآلام، وقد قررنا هذا المعنى فيما سلف. ومنها أن مداخل اللذات الدنيوية ثلاثة: لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل منها عيوب فلذة الأكل مع أنها غير باقية بعد البلع فإن المأكول يختلط بالبصاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر، ثم لما يصل إلى المعدة يستحيل إلى ما ذكره منفر فكيف به ومن هنا قالت العقلاء: من كانت همته ما يدخل في جوفه كانت قيمته ما يخرج من بطنه، هذا مع اشتراك الحيوانات الخسيسة فيها. وأيضا اشتداد الجوع حاجة والحاجة نقص وآفة وكذا الكلام في لذة النكاح وعيوبها مع أن فيها احتياجا إلى زيادة المال والنفقة للزوج والولد وما يلزمهما، والاحتياج إلى المال يلقي المرء في مهالك الاكتساب ومهاوي الانتجاع، ولذة الرياسة أدنى عيوبها أن كل واحد يكره بالطبع أن يكون خادما مأمورا ويحب أن يكون مخدوما، فسعي الإنسان في الرياسة سعي في مخالفة كل من سواه. ولا ريب أن هذا أمر صعب الحصول منيع المرام وإذا ناله كان على شرف الزوال في كل حين وأوان لأن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر فيكون دائما في الحزن والخوف. فإذا تأمل العاقل في هذه المعاني علم قطعا أنه لا صلاح في اللذات العاجلة ولكن النفس جبلت على طلبها والرغبة فيها فيكون دائما في بحر الآفات وغمرات الحسرات فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة. وقد سبق منا في تمني الموت كلام آخر في سورة البقرة في تفسير قوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الجمعة: ٦] فليتذكر. قال أهل السير: لما توفي يوسف تخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقا من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا فيه شرعا. وولد له إفرائيم وميشا وولد لإفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، ثم بقي يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
[التأويل:]
إن يعقوب الروح لا يتأسف على فوات شيء من المخلوقات إلا على يوسف القلب لأنه مرآة جمال الحق لا يشاهد الحق إلا فيها فلذلك ابيضت عيناه في