لأنهم قالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً والصبر لا يطلب إلا عند نزول البلاء وقد يجاب عن الأول بأنهم داخلون تحت قوله وَقَوْمَهُ وعن الثاني بأنهم طلبوا الصبر على الإيمان والثبات عليه وعدم الالتفات إلى وعيده. وعن قتادة: كانوا أوّل النهار كفارا سحرة وفي آخره شهداء بررة، ثم حكى عن القوم أنهم قالوا عند الوعيد إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي نحن لا نبالي بالموت لأنا ننقلب إلى لقاء ربنا ونخلص منك، أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب أو إنا جميعا يعنون أنفسهم وفرعون يرجع إلى الله فيحكم بيننا، أو إنا لا محالة ميتون فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه وَما تَنْقِمُ مِنَّا قال ابن عباس: ما أتينا بذنب تعذبنا عليه وما تعب منا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وهي المعجزات الظاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ثم لما لجأوا إلى الدعاء كما هو دأب الصديقين عند نزول البلاء فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أفض علينا سجال الثبات على متابعة الدين أو على ما توعدنا به فرعون وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الدين الذي جاء به موسى وأخبروا عن إيمانهم أوّلا وسألوا التوفي على الإسلام ثانيا. فيمكن أن يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد، واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الإيمان والإسلام بخلق الله تعالى وإلا لم يطلبوا ذلك منه، والمعتزلة يحملون أمثال ذلك على منح الألطاف. واعلم أن مبني القصة في هذه السورة على الاختصار وفي الشعراء على التطويل فلهذا قيل هناك يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وفي كل ذلك زيادة وأما قوله هاهنا وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ وهناك وَابْعَثْ فلأن الإرسال يفيد معنى البعث مع العلو فخص هذه السورة بذلك ليعلم أنّ المخاطب به فرعون دون غيره. وإنما قال هاهنا آمَنْتُمْ بِهِ وفي طه والشعراء آمَنْتُمْ لَهُ باللام لأن ضمير بِهِ في هذه يعود إلى رب العالمين، وفي السورتين إلى موسى، وقيل آمنت به وآمنت له واحد. وقال هاهنا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ وفي السورتين لَأُصَلِّبَنَّكُمْ لأنه لما أفاد الترتيب كان العطف المطلق كافيا وكثير من متشابهات هذه السور الثلاث يعود إلى رعاية الفواصل فتنبه.
[التأويل:]
فَظَلَمُوا بِها بأن جعلوها سحرا فوضعوها في غير موضعها عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الذين أفسدوا الاستعداد الفطري بالركون إلى الدنيا ولذاتها