القرية والعير والجدران والحيطان فإنها تجيبك بصحة ما ذكرنا. وقيل: إن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما فقد يقال سل عنه السماء والأرض وجميع الأشياء ويراد إنه ليس للشك فيه مجال. ثم زادوا في تأكيد نفي التهمة قائلين وَإِنَّا لَصادِقُونَ وليس غرضهم إثبات صدقهم فإن ذلك يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ولكن الإنسان إذا ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده أنا صادق فتأمل فيما ذكرته ليزول عنك الشك. وهاهنا إضمار التقدير فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم فعند ذلك: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وقد مر تفسيره في أول السورة. ولكن المفسرين زادوا شيئا آخر فقيل: المراد أنه خيل إليكم أنه سرق وما سرق. وقيل: أراد سوّلت لكم أنفسكم إخراج بنيامين والمصير به إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم عليّ في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله ربما جاء على خلاف تقديركم. وقيل: أراد فتواهم وتعليمهم وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته. واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز على يعقوب السعي في إخفاء حكم الله تعالى؟ وأجيب بأن ذلك الحكم لعله كان مخصوصا بما إذا كان المسروق له مسلما وكان الملك في ظن يعقوب كافرا، ولما طال بلاؤه ومحنته علم بحسن الظن والرجاء أنه سبحانه سيجعل له فرجا ومخرجا عما قريب، أو لعله علم بالوحي أن يوسف حي وكان بنيامين والكبير الذي قال:
فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ قد بقيا في مصر فلذلك قال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ أي بالثلاثة الغائبين جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي الْحَكِيمُ في كل ما يفعله من الابتلاء والإبلاء.
[التأويل:]
لما دخل الأوصاف البشرية ومعهم السر عَلى يُوسُفَ القلب آوى القلب السر إِلَيْهِ لأنه أخوه الحقيقي بالمناسبة الروحانية فَلا تَبْتَئِسْ إذا وصلت بي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ معك في مفارقتي لأن السر مهما كان مفارقا من قلب مقارنا للأوصاف كان محروما عن كمالات هو مستعد لها فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ جهز القلب الأوصاف بما يلائم أحوالها جَعَلَ السِّقايَةَ وهي مشربة كان منها شربه فِي رَحْلِ أَخِيهِ لأنهما رضيعا لبان واحد إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ سرقتم في الأول يوسف القلب وشريتموه بثمن بخس من متاع الدنيا وشهواتها، وسرقتم في الآخر مشربة ليست من مشاربكم، وفيه أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واستردت منه وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من علف الدواب ومراتع الحيوانات لأنه ليس مستحقا للشرب من مشارب الملوك لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنا من المقبولين المقبلين على يوسف القلب لا نريد الإفساد في أرض الدنيا كما قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] وَما كُنَّا سارِقِينَ إذ