[الحج: ٧٥] فإن قيل: لم قدم الملك على الحكمة مع أنه أدون منها؟ فالجواب أنه تعالى أراد أن يذكر كيفية ترقي داود عليه السلام في معارج السعادات، والتدرج في مثل هذا المقام من الأدون إلى الأشرف هو الترتيب الطبيعي. وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قيل: هو صنعة الدروع لقوله وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الأنبياء: ٨٠] وقيل: منطق الطير عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: ١٦] وقيل: ما يتعلق بمصالح الملك فإنه ما تعلم ذلك من آبائه فإنهم كانوا رعاة.
وقيل: علم الدين والقضاء وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: ٢٠] ولا يبعد حمل اللفظ على الكل والغرض منه التنبيه على أن العبد لا ينتهي قط إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبيا أو لم يكن ولهذا قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ معناه ظاهر وأما من قرأ بالألف فإما أن يكون مصدر الدفع نحو جمح جماحا وكتب كتابا وقام قياما، وإما أن يكون بمعنى أنه سبحانه يكف الظلمة والعصاة عن المؤمنين على أيدي أنبيائه وأئمة دينه، فكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: ٢٠] .
واعلم أن الله تعالى ذكر في الآية المدفوع وهو بعض الناس، والمدفوع به وهو البعض الآخر. وأما المدفوع عنه فغير مذكور للعلم به وهو الشرور في الدين كالكفر والفسق والمعاصي، فعلى هذا الدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى ومن يجري مجراهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والشرور في الدنيا كالهرج والمرج وإثارة الفتن.
فالدافعون إما الأنبياء أو الملوك الذابون عن شرائعهم ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم:«الملك والدين توأمان»
«الإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له فهو منهدم وما لا حارس له فهو ضائع»
وعلى هذا فمعنى قوله لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أي بطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وغير ذلك من سائر أسباب العمران. وقيل: المراد بالدفع نصر المسلمين على الكفار. ومعنى فساد الأرض عبث الكفار فيها وقتالهم المسلمين. وقيل: المعنى لو لم يدفع الكفار بالمسلمين لعم الكفر ونزل سخط الله، فاستؤصل أهل الأرض وتصديق ذلك ما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين»
ثم تلا هذه الآية وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ بسبب ذلك الدفاع. وفيه أن الكل بقضاء الله وقدره وبقهره ولطفه وبعدله وفضله.
[التأويل:]
فقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا، عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، وهذا حال أكثر مدّعي الإسلام