للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإقامة البينة عليهم ظاهرا لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [القصص: ٤٧] وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء. وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضا لغاية نقصانهم كما أن الأكمه ربما لا يصدق البصراء ولا يعرف أن التقصير والنقصان منه، وأن سائر الشرائط من محاذاة المرئي وظهور النير موجودة وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار. وأما حديث التفرقة الضرورية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية كالرعشة مثلا فأقول: لا ريب أن للإنسان إرادات وقوى بها يتم له حصول الملائم واجتناب المنافي، إلا أن تلك الإرادات والقوى مستندة إلى الله تعالى، فكأنه لا اختيار له. والتفرقة المذكورة سببها في أن الرعشة نقصت واسطة هي الداعية، وفي الحركة المسماة بالاختيارية زادت واسطة فافهم هذه الحقائق والإشارات واستعن بها في سائر ما يقرع سمعك من هذا القبيل، فلعلنا لا نكررها في كل موضع حذرا من التطويل. ومن لم يستضىء بمصباح لا يستفيد بإصباح وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: ٤] .

التاسعة: العذاب مثل النكال بناء ومعنى، لأنك تقول: أعزب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول: نكل عنه. ومنه العذاب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده.

ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا وإن لم يكن نكالا أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة. والفرق بين العظيم والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، ويستعملان في المعاني والأعيان جميعا. تقول: رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره.

ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله نعوذ بالله منه.

العاشرة: اتفق المسلمون أكثرهم على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار. وقال بعضهم: لا يحسن، وفسروا قوله «ولهم عذاب عظيم» وكذا كل وعيد ورد في القرآن بأنهم يستحقون ذلك، لكن كرمه يوجب عليه العفو. وذكروا أيضا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح كقولهم: التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأن الله تعالى منزه عن ذلك والعبد يتضرر به، ولو سلم أنه ينتفع به فالله قادر على إيصال النفع إليه من غير توسط ذلك العذاب، والضرر خال عن المنافع قبيح بالبديهة. وكقولهم: علم أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان، فتكليفه أمرا متى لم يفعل ترتب عليه العذاب، وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع كان قبيحا، فلم يبق إلا أن يقال: لم يوجد هذا التكليف، أو وجد لكنه لا يستعقب العقاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>