للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يستعمل ما معه من العلم بالعقاب والثواب فكأنه لا علم له. وبهذا التفسير تكون المعصية مع العلم بأنها معصية جهالة. وقيل: المراد أنه جاهل بعقاب المعصية. وقيل: المراد أن يكون جاهلا بكونها معصية لكنه يكون متمكنا من تحصيل العلم بكونها معصية، ولهذا أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية لأنه متمكن من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية، وأن النائم أو الساهي لا يستحق العقاب لأنه أتى بالقبيح غير متمكن من العلم بكونه قبيحا. أما المتعمد فإنه لا يكون داخلا تحت الآية وإنما يعرف حاله بطريق القياس، وإنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة فلأن تكون واجبة على العامد أولى لأنه عالم بقبح تلك المعصية. أما قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب قبل حضور زمان الموت ونزول سلطانه ومعاينة أهواله. وإنما كان ذلك الزمان قريبا لأن الأجل آت وكل ما هو آت قريب، ولأن مدة عمر الإنسان وإن طالت إذا قيست إلى طرفي الأزل والأبد كانت كالعدم، ولأن الإنسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به، وما هذا حاله فإنه يوصف بالقرب. و «من» في مِنْ قَرِيبٍ إما لابتداء الغاية أي يجعل مبتدأ توبته من زمان قريب من المعصية، أو للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زمانا قريبا لما قلنا ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد ألا ترى إلى قوله: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراء ذلك في حكم القرب.

ومثله

قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «١»

والفائدة في قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أن الأوّل إعلام بأنه يجب على الله قبولها لزوم الكرم والفضل والإحسان، والثاني إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو المراد بالأوّل توفيق التوبة والإعانة عليها، وبالثاني قبولها. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه حَكِيماً يجب في كرمه قبول توبة العبد إذا تاب من قريب. قال المحققون: قرب الموت وهو وقوعه في الشدائد بحيث يغلب على ظنه نزول الموت كما في القولنج، وفي حالة الطلق، وعند تلاطم الأمواج مع انكسار السفينة لا يمنع من قبول التوبة، بل التوبة حينئذ أولى بالقبول لقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: ٦٢] وإنما المانع من قبوله معاينة سلطان الموت ومشاهدة أحواله وأهواله بحيث


(١) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٨. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣٠. أحمد في مسنده (٢/ ١٣٢، ١٥٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>