الثانية: لقائل أن يقول: الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع فيه لا بعده، فهلا قدّمت الاستعانة على ذكر العبادة؟ والجواب كأنه يقول: شرعت في العبادة فأستعين بك على إتمامها حتى لا يمنعني مانع ولا يعارضني صارف، فإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن. وأيضا إن قيل: الاستعانة مطلقة تتناول كل مستعان فيه فذكر العبادة كالوسيلة إلى طلب الإعانة على الحوائج وتقديم الوسيلة مناسب.
الثالثة: لا أريد بالإعانة غيرك اقتداء بالخليل صلّى الله عليه وسلّم حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال: هل لك حاجة؟ فقال له: أما إليك فلا. قال: فاسأل الله.
قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وهاهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي، ويداه عن البطش، ولسانه إلا عن القراءة والذكر، فكما أن الله قال يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: ٦٩] فكذلك تقول له نار جهنم: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.
الرابعة: لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك.
السادسة: هاهنا مقامان: معرفة الربوبية ومعرفة العبودية، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: ٤٠] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين» فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلها، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه ربا رحمانا رحيما، وأحوال معاده تدل على أنه مالك يوم الدين، وأما معرفة العبودية فمبدؤها «إياك نعبد» وكمالها «إياك نستعين» في جميع المطالب، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله:«اهدنا» إلى آخره. وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه.
السابعة: في الالتفات الوارد في السورة وجوه: منها أن المصلي كان أجنبيا عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله:«مالك يوم الدين» .
ثم الله تعالى كأنه يقول: حمدتني وأقررت بأني إله، رب العالمين، رحمن رحيم، مالك يوم الدين، فنعم العبد أنت يا عبد. رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل «إياك نعبد» . ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه