للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نزاهة فراشه فقال: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي من لم يقدر أن يسخر عجوز الدنيا الصالحة بأسرها ويجعلها منكوحة له ويحصنها بتصرّف شرائع الإسلام بحيث لا يكون لها تصرف في قلبه بوجه ما، فليتصرف في القدر الذي ملكت يمين قلبه من الدنيا ولم تملك قلبه لأنها مأمورة بخدمته وهي مؤمنة له بالخدمة كما قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «يا دنيا اخدمي من خدمني واستخدمي من خدمك» . مُحْصَناتٍ بالصدق والإخلاص غَيْرَ مُسافِحاتٍ بالتبذير والإسراف وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ من النفس والهوى فَإِذا أُحْصِنَّ بالإخلاص في العطاء والمنع والأخذ والدفع فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ هي غلبات شهواتها على القلب فليبذل نصف ما ملكت يمينه من الدنيا في الله جناية وغرامة فهو حدها كما أن حدّ عجوز الدنيا إذا أحصنها ذوو الطول من الرجال فأتت بفاحشة إهلاكها بالكلية بالبذل في الله كما كان حال سليمان عليه السلام إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد لما شغلته عن الصلاة وأتت بفاحشة حب الخيل فطفق مسبحا بالسوق والأعناق ذلِكَ التصرف في قدر من الدنيا لِمَنْ خَشِيَ ضعف النفس وقلة صبرها على ترك الدنيا وامتناعها عن قبول الأوامر والنواهي وَأَنْ تَصْبِرُوا عن التصرّف في الدنيا بالكلية خَيْرٌ لَكُمْ كما

قال صلى الله عليه وسلم: «يا طالب الدنيا لتبر فتركها خير وأبر» .

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلكم المعونة ولغيركم المئونة.

قال إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: ٩٩] وأخبر عن حال موسى بقوله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف: ١٤٣] وعن حال نبينا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١] وعن حال هذه الأمة بقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا [فصلت: ٥٣] والمعونة هي الجذبة التي توازي عمل الثقلين، فلا جرم كان لغير نبيّنا الوصول إلى السموات فقط، وكان لنبيّنا الوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، ولأمته التقرّب:

«لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه» «١»

. والفرق بين النبي والولي، أنّ النبي مستقل بنفسه والولي لا يمكنه السير إلّا في متابعة النبي وتسليكه. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ولهذا أعين بالخدمة حتى يتصل بقوّة ذلك إلى مقام لا يصل إليه الثقلان بسعيهم إلى الأبد، وضعفه بالنسبة إلى جلال الله وكماله وإلّا فهو أقوى في حمل الأمانة من سائر المخلوقات. وأيضا من ضعفه أنه لا يصبر عن الله لحظة فإنه يحبهم ويحبونه.

الصبر يحمد في المواطن كلها ... إلّا عليك فإنه لا يحمد

وكان أبو الحسن الخرقاني يقول: لو لم ألق نفسا لم أبق. وغير الإنسان يصبر عن الله


(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣٨. أحمد في مسنده (٦/ ٢٥٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>