الواجب. وفيه أربع لغات: البخل مثل الفقر، والبخل بضم الباء وسكون الخاء، وبضمهما، وبفتحهما. وسبب النظم أن الإحسان إلى الأصناف المذكورين إنما يكون في الأغلب بالمال فذم المعرضين عن ذلك الإحسان لحب المال، ويحتمل أن يشمل البخل بالعلم أيضا، أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم مقتا للسخاء وهذه نهاية البخل. وفي أمثالهم «أبخل من الضنين بنائل غيره» وقد عابهم بكتمان نعمة الله وما آتاهم من فضل الغنى حتى أوهموا الفقر مع الغنى، والإعسار مع اليسار، والعجز مع الإمكان فخالفوا سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم حيث
قال صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله تعالى يحب أن يرى على عبده أثر نعمته»«١»
وبنى عامل للرشيد قصرا حذاء قصره فنم به عنده. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه. ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر مثل أن يظهر الشكاية من الله تعالى ولا يرضى بقضائه فلذلك قال: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ويحتمل أن يراد كافر النعمة لا كافر الإيمان. وقال ابن عباس: إنّ الآية في اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينتصحون لهم يقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وأيضا إنهم كتموا صفة محمد ولم يبينوها للناس. ثم لما ذمّ الذين لا ينفقون أموالهم عطف عليهم الذين ينفقون أموالهم ولكن رياء وفخارا وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا ابتغاء وجه الله، ومثل هذا الإنفاق دليل على أنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر وإلّا أنفق لله أو للآخرة وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً في الدنيا آمرا بالبخل والفحشاء فَساءَ قَرِيناً في الآخرة يقرن به في النار. ثم استفهم على سبيل الإنكار فقال: وَماذا عَلَيْهِمْ أي أيّ تبعة ووبال عليهم؟ أو ما الذي عليهم في باب الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ والمراد التوبيخ وإلّا فكل منفعة في ذلك كما يقال للمنتقم:
ما ضرك لو عفوت؟ وللعاق: ما كان يرزؤك لو كنت بارا؟. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً بعث على إصلاح أفعال القلوب التي يطلع عليها علام الغيوب، وردع عن دواعي النفاق والرياء والسمعة والفخار. احتج القائلون بأن الإيمان يصح على سبيل التقليد بأن قوله: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا مشعر بأن الإتيان بالإيمان في غاية السهولة والاستدلال في غاية الصعوبة.
وأجيب بأن الصعوبة في الإيمان الاستدلالي التفصيلي لا الإجمالي. وقال جمهور المعتزلة:
لو كانوا غير قادرين لم يقل: وَماذا عَلَيْهِمْ كما لا يقال للمرأة ماذا عليها لو كانت رجلا، وللقبيح ماذا عليه لو كان جميلا. وأجيب بعدم التحسين والتقبيح العقليين وأنه لا يسأل عما يفعل.
(١) رواه الترمذي في كتاب الأدب باب ٥٤. أحمد في مسنده (٢/ ٣١١) .