للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإسلام حين كانت الهجرة فريضة. وفي خبر «إنّ» وجوه: الأول قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ والعائد محذوف للدلالة أي قالوا لهم. الثاني فَأُولئِكَ فيكون قالُوا حالا من الملائكة بتقدير «قد» . الثالث إنّ الخبر محذوف وهو هلكوا. ثم فسر الهلاك بقوله: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والمراد التوبيخ على ترك الجهاد والرضا بالسكنى في دار الكفر وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم ليسوا من الدين في شيء، ولهذا لم يجيبوا بقولهم كنا في كذا أو لم نكن في شيء بل أجابوا بقولهم: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة من أرض مكة حتى يكونوا في شيء. ثم إنّ الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر فبكتوهم قائلين: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمتنعون فيها من إظهار دينكم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين من الرجال والنساء والولدان. فسئل لم عدّ الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد، ومن حق الاستثناء أن يدخل فيه المستثنى لو لم يخرج وليس الولدان من أصحاب الوعيد لأنهم ليسوا من أهل التكليف؟ وأجيب بأنّ المراد بالولدان العبيد والإماء البالغون، أو المراد المراهقون الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء حتى يتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله. سلمنا أن المراد بهم الأطفال لكن السبب في سقوط الوعيد هو العجز وإنه حاصل في الولدان فحسن استثناؤهم بهذا الوجه. وقوله: لا يَسْتَطِيعُونَ قيل في موضع الحال، والأصح أنه صفة للمستضعفين. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأنّ المعرف تعريف الجنس قريب من المنكر. والمعنى أنّ العاجزين هم الذين لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، أو يكون بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم عن المهاجرة. ومعنى لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلّهم على الطريق. وإنما قال سبحانه: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بكلمة الإطماع تنبيها على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه حتى إن المضطر من حقه أن يعفو الله عنه بل يكون من العفو على ظن وحسبان لا على جزم وإيقان، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز ولا يكون في الواقع كذلك لأنّ الفطام عن المألوف شديد والفراق عن الأوطان شاق، فلعل حب الوطن يحمله على تأويل غير سديد. ومع قيام هذا الاحتمال أنى يحصل الجزم بالعفو هذا من جانب العبد.

وأما من الرب فعسى إطماع وإطماع الكريم إيجاب. فالجزم بالعفو حاصل إلا أنّه يرد على لفظ العفو أنه لا يتقرر إلّا مع الذنب ولا ذنب مع العجز وجوابه أيضا يخرج مما قلنا:

وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً قال الزجاج: أي كان في الأزل موصوفا بهذه الصفة، أو أنه مع جميع العباد بهذه الصفة أي أنه عادة أجراها في حق غيره. وأيضا لو قال إنه عفو غفور كان

<<  <  ج: ص:  >  >>