«إياك نعبد» أبصرت به عالم الشريعة، وإذا قلت «وإياك نستعين» أبصرت به عالم الطريقة، وإذا قلت «اهدنا الصراط المستقيم» أبصرت به عالم الحقيقة وإذا قلت «صراط الذين أنعمت عليهم» أبصرت به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات، وإذا قلت «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» لاحظت دركات أهل التفريط والإفراط فإذا انكشفت لك هذه المقامات فلا تظن أنك قد بلغت الغايات بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالهوان وقل «الله أكبر» ثم انزل من صفة الكبرياء إلى العظمة وقل «سبحان ربي العظيم» ثم انتصب ثانيا وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل «سمع الله لمن حمده» فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم. ولا تكبير في هذا المقام لأن التكبير من الكبرياء والهيبة والخوف وهذا مقام الشفاعة، ثم عد إلى التكبير وانحدر به إلى غاية العلو وقل «سبحان ربي الأعلى» لأن السجود أكثر تواضعا
. روي أن لله ملكا تحت العرش اسمه حزقيل. فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة، ثم ثلاثين ألف سنة، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه: لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني من العرش. فقال الملك عند ذلك: سبحان ربي الأعلى.
أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد، والقعدة بينهما هي الدنيا، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانيا. وأيضا الأولى فناء الدنيا في الآخرة، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى، وأيضا الأولى فناء الكل في أنفسها، والثانية بقاؤها ببقائه، وأيضا الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: ٥٤] وأيضا الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه. وأيضا صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد، وأيضا ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة، وأيضا ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة إلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية، وأيضا الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات. ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة، وفي السجود بمرتبتين، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا.
المنهج التاسع في اللطائف:
عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل ربه فقال: ما جزاء من حمدك؟ فقال تعالى: الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته.
فقال أهل التحقيق: من هاهنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠]
وعن علي عليه السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون، ثم قال له:
تكلم فقال: الحمد لله فقال الرب: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز عليّ منك.