للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعلم أن قوله سبحانه وتعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أصل معتبر في علم الفقه لأنه يدل على أن الأصل في المضار الحرمة وفي المنافع الإباحة. وقد تمسك به نفاة القياس قالوا: إن كل حادثة فحكمها المفصل إن كان مذكورا في الكتاب والسنة فذاك وإلّا فإن كان من باب المضارّ فالأصل فيها الحرمة، وإن كان من باب المنافع فالأصل فيها الإباحة، والقياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياسا واقعا في مقابلة النص فيكون مردودا. أما قوله: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فله تفسيران: أحدهما وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة، أن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية، وزيف بأن أعضاء المؤمن لا تنجس لقوله تعالى:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: ٢٨]

ولقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس لا حيا ولا ميتا» «١»

وبأنه لو كان رطبا فأصابه ثوب لم ينجس، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته بالاتفاق، وبأن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل عضو لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع، وبأن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر، وبأن التيمم زيادة في التكدير فكيف يوجب النظافة والتطهير، وبأن المسح على الخفين كيف يقوم مقام غسل الرجلين، وبأن الذي يراد إزالته ليس من الأجسام ولا كان محسوسا ولا من الأعراض لأن انتقال الأعراض محال. التفسير الثاني أن المراد طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن إيصال الماء أو التراب إلى هذه الأعضاء المخصوصة ليس فيه فائدة يعقلها المكلف، فالانقياد لمثل هذا التكليف تعبد محض يزيل آثار التمرد وتؤكده الأخبار في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بإباحة الطيبات الدنيوية من المطاعم والمناكح بهذه النعمة الدينية وهي كيفية فرض الوضوء، أو ليتم برخصه كالتيمم ونحوه إنعامه عليكم بعزائمه. ثم ذكر ما يوجب عليهم قبول تكاليفه وذلك من وجهين:

الأول تذكر نعمته يعني التأمل في هذا النوع الذي لا يقدر عليه غيره لأن هذا النوع وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى الخيرات في الدنيا والآخرة حيث إنه يمتاز عن نعمة غيره وأنه لا يقدر عليه غيره يجب تلقيه بالتشكر وهو الإذعان لأوامره والانقياد لنواهيه. فإن قيل: اذكروا مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل


(١) رواه البخاري في كتاب الغسل باب ٢٣، ٢٤. مسلم في كتاب الحيض حديث ١١٥. أبو داود في كتاب الطهارة باب ٩١. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٨٩. النسائي في كتاب الطهارة باب ١٧١.
ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٨٠. أحمد في مسنده (٢/ ٢٢٥، ٣٨٢) .

<<  <  ج: ص:  >  >>