ومنها الوباء ومنها القتل ومنها العداوة والبغضاء فيما بينهم ومنها الإدبار والنحوسة وكل ذلك قد وقع بهم وقد فسرت الفتنة بكل ذلك، وحسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين:
الأول أنهم كانوا يعتقدون أن لا نسخ لشريعة موسى، وأن كل رسول جاء بعده يجب تكذيبه، والثاني أنهم اعتقدوا كونهم مخطئين في التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وأن نبوّة إسلافهم تدفع العقاب عنهم. ثم إن الآية تدل على أن عماهم عن الدين وصممهم عن الحق حصل مرتين، فقال بعض المفسرين: إنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفقهم للإيمان به ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ في زمان محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا نبوّته إلا بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل عن الضمير كقولك: رأيت القوم أكثرهم، وقيل: إنه على لغة من يقول «أكلوني البراغيث» وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم، وقال بعضهم: عَمُوا وَصَمُّوا حين عبدوا العجل ثم تابوا منه فتاب الله عليهم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ بالتعنت وهو طلب رؤية الله جهرة. وقال القفال: إنه يجوز أن يكون إشارة إلى ما في سورة بني إسرائيل فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الإسراء: ٥] فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ [الإسراء: ٧] وقرىء فَعَمُوا وَصَمُّوا بالضم أي رماهم الله وضربهم بالعمى والصمم كما يقال: ركبته إذا ضربته بالركبة. ثم إنه سبحانه لما استقصى الكلام مع اليهود شرع في حكاية كلام النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية القائلين إن مريم ولدت إلها، ولعل مرادهم أنه تعالى حل في ذات عيسى أو اتحد به. ثم حكى عن المسيح ما حكى ليكون حجة قاطعة على فساد ما اعتقدوا فيه وذلك أنه لم يفرق بين نفسه وبين غيره في المربوبية وفي ظهور دلائل الحدوث عليه، ثم أكد ذلك المعنى بقوله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي في العبادة أو في تجويز الحلول أو الاتحاد أو في إجراء وصفه في المخلوقين أو بالعكس فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي هي دار الموحدين أي منعه منها وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ من كلام الله تعالى أو من حكاية قول عيسى عليه السلام لهم وقد مر تفسيره في آخر سورة آل عمران، وفيه تقريع لهم لأنهم كانوا يعتقدون أن لهم أنصارا كثيرة فيما يقولون ويعتقدون فنفى الله تعالى أو عيسى ذلك وإن كانوا يريدون بذلك تعظيمه. قال المفسرون ثالِثُ ثَلاثَةٍ معناه ثالث آلهة ثلاثة ليلزم الكفر وإلا فما من شيئين وإلا والله ثالثهما. يحكى أن النصارى يقولون أب وابن وروح قدس والثلاثة إله واحد كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، قالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء