للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالكسر أفكا بالفتح والسكون صرفه عن الشيء. ومنه الإفك بالكسر للكذب لأنه مصروف عن الحق، وأرض مأفوكة صرف عنها المطر. ومعنى «ثم» التراخي والبون بين العجبين أي بينا لهم الآيات بيانا عجيبا ولكن إعراضهم عنها أعجب، ثم الصارف عن تأمل الحق هو الله أو العبد فيه خلاف مشهور بين الأشاعرة والمعتزلة، وأنت قد عرفت التحقيق في ذلك مرارا. ثم أقام حجة أخرى على فساد قول النصارى فقال قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ أي شيئا لا يستطيع أو الذي لا يقدر على مثل ما يضركم به الله من البليات والمصائب أو ينفعكم به من الصحة والخصب بواسطة أو بغير واسطة بل لم يملك شيئا من ذلك لنفسه، فإن اليهود كانوا يقصدونه بالسوء ولم يقدر على دفعهم. ومن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء صبوا الخل في منخريه وكان عليه السلام مصروف الهمة إلى عبادة الله ولو كان إلها كان معبودا فقط لا عابدا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أبا طيلهم ويعلم ضمائرهم ليجازيهم عليه وفيه من الوعيد ما فيه. ثم عاد إلى مخاطبة الفريقين فقال يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا والغلو مجاوزة حد الاعتدال وأنه شامل لطرفي الإفراط والتفريط وإن كان قد يخص بطرف الإفراط ويجعل مقابلا للتقصير. ولعل المراد هاهنا هو الأول فاليهود فرطوا فيه حيث نسبوه إلى الزنا والكذب، والنصارى أفرطوا فيه حيث ادعوا فيه الإلهية. قال في الكشاف: قوله غَيْرَ الْحَقِّ صفة للمصدر أي غلوا غير الحق، ولزمه القول بأن الغلو في الدين غلو، إن حق وهو أن يبالغ في تقرير الحق وتوضيحه واستكشاف حقائقه، وباطل وهو أن يتبع الشبهات على حسب الشهوات، والثاني منهي عنه دون الأوّل، وأقول: لما كان الغلو مجاوزة الحد وكل شيء جاوز حدّه شابه ضدّه فكيف يتصوّر غلو حق ولله در القائل:

كلا طرفي قصد الأمور ذميم فالأصوب أن يقال: انتصب غَيْرَ الْحَقِّ على أنه صفة قائمة مقام المصدر أي لا تغلوا غلوا كقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: ٦٠] أي إفسادا وكقولهم: تعال جائيا وقم قائما. ولو سلم أن المصدر محذوف كان غَيْرَ الْحَقِّ صفة مؤكدة مثل نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: ١٣] و «أمس الدابر» لا صفة مميزة فافهم وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ هي المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ [ص: ٢٦] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: ٢٣] قال أبو عبيد: لم نجد للهوى موضعا إلا في

<<  <  ج: ص:  >  >>