القوم يا أم خالد. وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون «الم» خبر مبتدأ محذوف أي هذه «الم» ، ويكون «ذلك» خبرا ثانيا أو بدلا على أن الكتاب صفة، وأن يكون هذه «الم» جملة، «ذلك الكتاب» جملة أخرى، وفقد العاطف لأن الثانية بيان للأولى. وإن جعلت «الم» بمنزلة الصوت كان «ذلك» مبتدأ خبره «الكتاب» أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو «الكتاب» صفة والخبر ما بعده، أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف «ذلك الكتاب» . وفي قراءة عبد الله بن مسعود «الم تنزيل الكتاب» .
البحث الثالث في قوله «لا ريب فيه» الريب مصدر رابني وحقيقته قلق النفس.
روى الحسن بن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»«١»
فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة أي كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له. ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة،
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف أي معوج مضطجع وهم محرمون فقال: لا يريبه أحد بشيء أي لا يزعجه.
والحاصل أن الريب شك وزيادة ظن سوء، فإن قلت: كيف نفي الريب على سبيل الاستغراق، وكم من شقي مرتاب فيه؟ قلت: ما نفي أن أحدا لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه ومثله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:
٢٣] لم يقل «وإذا كنتم» مع وقوع الشك منهم في الواقع دلالة على أن الشك فيه مما لا ينبغي أن يوجد إلا على سبيل الفرض والتقدير، ولو فرض فوجه إزالته أن يجردوا أنفسهم ويبرزوا قواهم في البلاغة هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها. فإن قلت: فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: ٤٧] قلنا: لأن المقصود منها ليس إلا نفي الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق، ولو عكس لأفاد ذلك مع ما ليس بمراد ولا هو بصادق في نفس الأمر وهو التعريض بأن ريبا في غيره من الكتب كما أن في قوله: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: ٤٧] تعريضا بأن خمور الدنيا تغتال العقول. وقرأ أبو الشعثاء «لا ريب» فيه بالرفع. قيل: والفرق بينها وبين المشهورة، أن المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه. ويمكن أن يقال: كلاهما يوجب الاستغراق إلا أن الأول بطريق نفي الماهية، والثاني لأن قوله «لا ريب» جواب قول القائل هل ريب فيه، وهذا يفيد ثبوت فرد واحد فنقيضه يكون سلب جميع الأفراد.
(١) رواه البخاري في كتاب البيوع باب ٣. الترمذي في كتاب القيامة باب ٦٠. أحمد في مسنده (٣/ ١٥٣) .