وفي قوله «هدى للمتقين» ثم في موضع آخر شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة: ١٨٥] دليل على أن الناس محصورون في المتقين، والباقون كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: ١٧٩] .
الثالثة: لم اختص كون القرآن هدى للمتقين، وأيضا المتقي مهتد فكيف يهتدي ثانيا؟
والجواب أن المتقين لما كانوا هم المنتفعين بالهداية خصوا بالذكر مدحا لهم كقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: ٤٥] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: ١١] مع أنه صلى الله عليه وسلم منذر كل الناس. وأيضا قوله «هدى للمتقين» كقولك للعزيز المكرم «أعزك الله وأكرمك» تريد طلب الزيادة واستدامة ما هو ثابت فيه. وبوجه آخر سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين نحو
«من قتل قتيلا فله سلبه»«١»
فهذا مجاز من باب تسمية الشيء بما هو آيل إليه واللطف فيه أنه لو قال هدى للصائرين إلى التقوى بعد الضلال كان إطنابا في غير موضعه، فإن تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده هو اللائق بالمقام، فاختص الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا. فإن قلت: كيف وصفت القرآن بأنه كله هدى وفيه مجمل ومتشابه لا يهتدي فيه إلى المقصود إلا بحكم العقل، فيكون الهدى في ذلك للعقل لا للقرآن؟ ومما يؤكد ما قلنا، ما
نقل عن علي عليه السلام أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولا إلى الخوارج: لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه خصم ذو وجهين.
ولهذا كان فرق الإسلام المحق منهم والمبطل يحتجون به، قلنا: المتشابه لما لم ينفك عما يبين المراد معه على التعيين عقلا كان أو سمعا صار كله هدى. فإن قيل: كل ما يتوقف صحة كون القرآن هدى على صحته كمعرفة الله تعالى وصفاته وكمعرفة النبوة، فالقرآن ليس هدى فيه فكيف جعل هدى على الإطلاق؟ قلنا: المراد كونه هدى في تعريف الشرائع والمطلق لا يقتضي العموم، أو كونه هدى في تأكيد ما في العقول أيضا فيعم.
الرابعة: محل «هدى للمتقين» الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع «لا ريب فيه» لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبرا عنه، ويجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أنه يقال:«الم» جملة
(١) رواه البخاري في كتاب الخمس باب ١٨. مسلم في كتاب الجهاد حديث ٤٢. أبو داود في كتاب الجهاد باب ١٣٦. الترمذي في كتاب السير باب ١٣.