بذاته يوجب العلم بجميع آثاره على ترتيبها المعتبر- كليات كانت أو جزئيات- وعلمه بذاته لم يحصل إلا لذاته فصح أن يقال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. وفيه أنه لا ضد له ولا ند إذ لو كان في الوجود واجب آخر لكانت مفاتح الغيب حاصلة أيضا عنده فيبطل هذا الحصر، ولا يمكن أن تكون هذه المفاتح عند شيء من الممكنات لأن المحاط لا يحيط بمحيطه فلا يحيط ما دون الواجب بالواجب، فلا يكون المفتاح الأوّل للعلم بجميع المعلومات إلا عنده. ثم إن قوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قضية معقولة مجردة، والإنسان الذي يقوي على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا والقرآن إنما نزل لينتفع به جميع الناس فذكر من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية الكلية أمثالا لها ليعين الحس العقل فقال وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لأن ذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة لذلك المعقول، وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والجبال والتلال والمعادن والنبات والحيوان، وأما البحر فإحاطة الحس بأحواله أقل مع كثرة ما فيها من العجائب والغرائب أيضا. ثم أفرد من هذه المحسوسات قسما فقال وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أي لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها. ثم عدل عن التعجيب من كثرة المدركات إلى التعجيب من صغر المدرك وخفائه فقال وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وفي تخصيص الحبة والورقة تنبيه للمكلفين على أمر الحساب لأنه إذا كان بحيث لا يهمل أمر الأشياء التي ليس لها ثواب ولا عقاب فلأن لا يهمل أمر المكلفين أولى.
ثم عاد إلى ذكر القضية الكلية المجردة بعبارة أخرى فقال وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قال في الكشاف: ولا حبة ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة وداخل في حكمها كأنه قيل: وما يسقط شيء من هذه الأشياء إلا وهو يعلمه. وقوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله إِلَّا يَعْلَمُها ومعنى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ واحد. والكتاب المبين علم الله أو اللوح. قال علماء التفسير: يجوز أن يكون الله جل شأنه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات وأنه لا يغيب عنه شيء، فيكون في ذلك عبرة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في العالم فيجدونه موافقا له. أو لأنه إذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع تغيرها وإلا لزم الكذب أو الجهل فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب سببا تاما في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم. ثم لما بين كمال علمه أردفه ببيان كمال قدرته بقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي يتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز. وذلك أن الأرواح الجسمانية تغور حالة النوم من الظاهر إلى الباطن