وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم. ثم قال بالآخرة وَتِلْكَ حُجَّتُنا والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه. وأيضا الإراءة بالعين تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الآخرة. وأيضا اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين، أو ليكون من الموقنين نريه، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سببا للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: ٥٦] وأيضا الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله. أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى الصانع الحق الواجب فكأنه بهاتين المقدمتين قد طالع صفحة الملكوت بعين عقله وسمع بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: ٥٣] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم في دعائه «أرني الأشياء كما هي»
ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منها نوع تأثير وقوة، ويكون جاريا مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نورا وإشراقا وانبساطا إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قال في الكشاف: إنه معطوف على قوله وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وقوله وَكَذلِكَ نُرِي جملة وقعت اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه.
يقال: جن عليه الليل وأجنه الليل. والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين. وقيل: جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي ب «على» . وأما «أجنة» فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم. واعلم أن كثيرا من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه السلام به وما أظهرت حملها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه، وكان يتعهده جبريل عليه السلام وكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه. وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت: