وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ عد هاهنا من منافع النجوم كونها سببا للاهتداء إلى الطرق والمسالك فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حيث لا يرون شمسا ولا قمرا. والتقدير في ظلمات الليل بالبر والبحر فأضافها إليهما لملابستها لهما. وقيل: المراد ظلمات بر التعطيل وبحر التشبيه فإن اختصاص كل من هذه الكواكب بحال وصفة أخرى مع تشاركها في الجسمية دليل ظاهر على مختار قادر. وأيضا اتصافها بالأعضاء والأبعاض والحدود والأحياز مع أنها لا تصلح للإلهية بالاتفاق دليل على تنزيه الله سبحانه من هذه السمات ولهذا قال قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب.
ثم عدل عن الآيات الآفاقية إلى آيات الأنفس فقال وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم بطريق النشؤ والنماء مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي آدم وحوّاء مخلوقة من ضلع من أضلاعه، وكذا عيسى لأنه من مريم وإن كان يتوسط كلمة «كن» أو بالنفخ وهي من آدم فَمُسْتَقَرٌّ من قرأ بكسر القاف فالتقدير فمنكم مستقر وَمنكم مُسْتَوْدَعٌ الأول اسم فاعل والثاني اسم مفعول. ومن قرأ بفتح القاف فالتقدير: فلكم مستقر ولكم مستودع. فيكون كلاهما اسمي مكان أو مصدرا. وذلك أن استقر لازم فلا يجيء منه المفعول به بلا واسطة فينبغي تفسير مستودع أيضا بما يشاكله استحسانا. وعن ابن عباس: أن المستودع الصلب والمستقر الرحم لقوله وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: ٥] ولأن اللبث في الرحم أكثر فيكون لفظ القرار بذلك أنسب بخلاف المستودع فإنه في معرض الاسترداد ساعة فساعة، وهذا شأن المني في الأصلاب فإنه بصدد الإراقة في كل حين وأوان. وقيل: المستقر صلب الأب والمستودع الرحم، لأن النطفة قد حصلت في صلب الأب أوّلا واستقرت هناك، ثم حصلت في الرحم على سبيل الوديعة، ولأن هذا الترتيب يناسب تقديم المستقر على المستودع. وعن الحسن:
المستقر حاله بعد الموت لأن سعادته وشقاوته تبقى وتستقر على حالة واحدة والمستودع حاله قبل الموت، لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا والفاسق صالحا والوديعة على شرف الزوال والذهاب. وقال الأصم: المستقر الذي خلق من النفس الأولى وحصل في الوجود والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق. وعنه أيضا المستقر من في قرار الدنيا، والمستودع من في القبور إلى يوم البعث. وعن قتادة بالعكس. وعن أبي مسلم الأصفهاني: المستقر الذكر لأن النطفة إنما تستقر في صلبه، والمستودع الأنثى لأنها تستودع النطفة. وحاصل الكلام أن الإنسان خلق من نفس واحدة ثم إنه يتقلب في الأطوار ويتردد في الأحوال، وليس هذا بمقتضى الطبع والخاصية وإلا لتساوى الكل في الأخلاق والأمزجة فذلك إذن بتدبير