بالميل والرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي، وبمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن. ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل والزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه، وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين: الأول: أن الله تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته وأشار إلى هذا الوجه بقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكما فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز. الوجه الثاني: اشتمال التوراة والإنجيل على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله حقا، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله وأشار إليه بقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ثم قال: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ والخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي
أن يمتري فيه أحد. وقيل: الخطاب للرسول في الظاهر والمراد به الأمة. وقيل: الخطاب للرسول في الحقيقة والمراد التهييج والإلهاب كقوله:
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ١٤] والمراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، ولا يريبك جحود أكثرهم. قال الواحدي: الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة. وقال بعض أهل التأويل: الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم والحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق.
ثم لما بين أن القرآن معجز قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي القرآن. وقوله: صِدْقاً وَعَدْلًا مصدران منتصبان على الحال من الكلمة، ومعنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علما وعملا، أو المراد بالتمام أنها أزلية ولا يحدث بعد ذلك شيء. واعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان: الخبر والتكليف فالخبر كل ما أخبر الله تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته وحصول صفاته أعني كونه تعالى قادرا سميعا بصيرا ويدخل فيه الخبر عن صفات التقديس والتنزيه كقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: ٣] لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله تعالى وكيفية تدبيره لملكوته في السموات والأرض وفي عالم الأرواح والأجسام، ويدخل فيه الخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب، ويدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء الله تعالى والخبر عن النبوات وأقسام المعجزات، والخبر عن أحوال النشر والقيامة وصفات أهل الجنة والنار، والخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن المغيبات. وأما التكليف فيدخل فيه