للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ

والنار أفضل من الطين لأن النار جوهر مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن الأجرام اللطيفة كلها، وأيضا النار قوية التأثير والفعل، والأرض ليس فيها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال. وأيضا النار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة والنضج وأما الأرضية فللبرد واليبس تناسب الموت والحياة أشرف من الموت. وأيضا فما بين التمييز والشباب لما كان وقت كمال الحرارة كانت أفضل أوقات عمر الحيوان بخلاف وقت الشيخوخة لغلبة البرد واليبس المناسب للأرضية والمخلوق من الأفضل أفضل لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع. وأما أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فما قد تقرر في العقول فهذه شبهة إبليس والمقدمات بأسرها ممنوعة، أما أن النار أفضل من الأرض فممنوع لأن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره، وكل منها ضروري في الوجود وفي التركيب فلكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على البعض تطويل بلا طائل. ومن تأمل ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: ٢٢] وقف على بعض منافعها وعلم أن طعن اللعين مردود جدا، ولو لم يكن في النار إلا الخفة المقتضية للطيش والاستكبار والترفع وفي الأرض إلا الرزانة الموجبة للحلم والوقار والتواضع لكفى به ردا لكلامه، وأما أن المخلوق من الأفضل أفضل فهو محل البحث والنزاع لأن الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء ولا يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة، فقد يخرج الكافر من المؤمن ويحصل الدخان من النار والتكليف يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل. فالاعتبار بما انتهى إليه لا بما خلق منه

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم»

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣] وفي كلام الحكماء: العاقل من يفتخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية. فثبت أن دعوى اللعين في قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ باطلة. ولئن سلم فلم لا يجوز خدمة الفاضل للمفضول تواضعا وإسقاطا لحق النفس؟ ولم لا يجوز الأمر بذلك لغرض الطاعة والامتثال أو لتشريف المفضول والرفع من مقداره؟ قالت العلماء هاهنا: إن قوله تعالى للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ خطاب عام يتناول جميع الملائكة: ثم إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس فاستوجب الذم والتعنيف والدخول في جملة المتكبرين على الله فدل ذلك على أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه كانت الطاعة بإبليس أولى من القياس فعصى ربه وقاس. وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس. ويمكن أن يجاب بأنه إنما استحق الذم لأن قياسه كان مبطلا

<<  <  ج: ص:  >  >>