المرء ما لم يعرف المبدأ والمعاد لا يصح منه التوجه إليه. وإنما طوى ذكر الرسول تنبيها على أنه واسطة والتوجه الحقيقي من الله وإلى الله ولهذا ورد في الحديث:«المصلي يناجي ربه» . وقيل: إن المشركين كانوا يقولون إن محمدا ادّعى رسالة الله طلبا للرياسة والملك فلنفي هذه التهمة ترك ذكره صلى الله عليه وسلم. وقيل: دل عليه بقوله وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ لأنهما معلومتان من أفعاله صلى الله عليه وسلم ولما في الصلاة من التشهد وقبلها الأذان والإقامة. ثم إن إقامة الصلاة لا ريب أن فيها عمارة المسجد والحضور فيه، وأما إيتاء الزكاة فإنما كان سببا للعمارة لأنه يحضر المسجد طوائف الفقراء والمساكين لأخذ الزكاة، ولأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد وإصلاحه نفل والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لم يشتغل بالنافلة، فلو لم يكن مؤديا للزكاة فالظاهر أنه لم يشتغل بعمارة المسجد. ثم قال وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ليعلم أنه لو أتى المسجد وبناه رياء وسمعة لم يكن عامرا له. فعلى المؤمن أن يختار في جميع الأحوال رضوان الله على غيره فإن ذلك لو ضره في العاجل فسينفعه في الآجل وفي إدخال كلمة «إنما» في صدر الآية تنبيه على أن من لم يكن موصوفا بالصفات المذكورة لم يكن من أهل عمارة المسجد، وأن المسجد يجب صونه عن غير العبادة.
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة»
وعنه صلى الله عليه وسلم:«الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش»
وقال صلى الله عليه وآله: قال الله تعالى: «إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زوّاري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره»
ومن عمارة المساجد تعظيمها والدرس فيها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح.
فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه» .
وفي قوله فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم فإن الموصوفين بالصفات المذكورة إذا كان اهتداؤهم المستعقب لصلاح حالهم في الدارين دائرا بين عسى ولعل فما ظنك باهتداء المشركين ومغبتهم؟ وفيه أن المؤمن يجب أن لا يغتر بالله عزّ وجلّ. هذا وقد مر أن بعض الأمة ذهبوا إلى أن «عسى» من الله الكريم واجب. وقال بعضهم: إن الرجاء راجع إلى العباد.
ثم إنه قال أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ومعناه هبوا أن عمارة المسجد وسقي الحجيج يوجب لكم نوعا من الفضيلة إلا أن هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد شيء