العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية.
الثالثة في أن السماء أفضل أم الأرض: قال بعضهم: السماء أفضل لأنها متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصي الله فيها، ولما أتى آدم عليه السلام بتلك المعصية أهبط من الجنة وقال الله تعالى: لا يسكن في جواري من عصاني. وقال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء: ٣٢] وقال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان: ٦١] وورد في الأكثر ذكر السماء مقدما على ذكر الأرض. والسماويات مؤثرة والأرضيات متأثرة، والمؤثر أشرف من المتأثر. وقال آخرون: بل الأرض أفضل لأنه تعالى وصف بقاعا من الأرض بالبركة إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً [آل عمران: ٩٦] فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص: ٣] إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الإسراء: ١] مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف: ١٣٧] يعني أرض الشام. ووصف جملة الأرض بالبركة وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [فصلت: ١٠] فإن قيل: وأيّ بركة في المفاوز المهلكة؟ قلنا: إنها مساكن الوحوش ومرعاها، ومساكن الناس إذا احتاجوا إليها، ومساكن خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى، فلهذه البركات قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات: ٢٠] تشريفا لهم لأنهم هم المنتفعون بها كما قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وخلق الأنبياء من الأرض مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: ٥٥] وأودعهم فيها وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه:
٥٥] وأكرم نبيه المصطفى فجعل الأرض كلها له مسجدا وطهورا. ولما خلق الله الأرض وكانت كالصدفة والدرة المودعة فيها آدم عليه السلام وأولاده، ثم علم الله أصناف حاجاتهم قال:
يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: ٢٥، ٢٦] وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [إبراهيم: ٣٢] يا عبدي إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منها هذه المنافع؟ ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك، فكيف الحال في الجنة؟ فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم، لأن الأم تسقيك نوعا واحدا من اللبن، والأرض تطعمك ألوانا من الأطعمة. ثم قال: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: ٥٥] معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد، لأن المرء لا يتوعد بأمه وذلك لأن مقامك من الأم التي ولدتك أضيق من مقامك من الأرض، ثم إنك كنت في بطن الأم الصغرى تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى؟ ولكن الشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى، ما كانت لك زلة فضلا من أن يكون لك كبيرة، بل كنت مطيعا لله، فحيث دعاك مرة بالخروج