فيه، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ وأشهد عليه ملائكته وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء فينقلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا وقدرته عجزا وإرادته عبثا وإشهاده باطلا. الحجة الثانية قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وإنما قال: ثُمَّ يُعِيدُهُ مع أن الخصم لا يعترف به لأنه قدم في هذه السورة دلائل الإعادة بحيث لا يتمكن العاقل من دفعها إذا تأمل وأنصف فبنى الأمر على ذلك. وإنما أمر نبيه أن ينوب عنهم في الجواب بقوله قُلِ اللَّهُ الآية. تنبيها على أن هذا المعنى بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه الى إقرار الخصم المكابر، فكأنه قيل:
تكلم عنهم إذ لا يدعهم لحاجهم أن ينطقوا بكلمة الحق. وقوله: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كقوله:
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وقد مر في «المائدة» . الحجة الثالثة قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي الآية. الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أوّلا ثم بالهداية عادة مطردة في القرآن، فحكى عن الخليل صلى الله عليه وسلم الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: ٧٨] وعن موسى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥] وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: ١- ٣] والسر فيه أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح وارتسام العلوم والمعارف فيه بإرشاد الحق سبحانه إذ الطرق المنحرفة كثيرة والظنون والأغاليط غير محصورة، فتحصيل الوسط الحقيقي لا يمكن إلا بتوفيقه وهدايته، ولا مدخل في ذلك بالاستقلال لملك أو إنسي أو جني فضلا عن الأصنام التي هي في أدنى مراتب الوجود لأنها جمادات لا شعور لها هذا تقرير الحجة الثالثة. وقال الزجاج: يقال: هديت للحق وإلى الحق بمعنى، فجمع بين العبارتين.
ويقال: هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قوله: أَمَّنْ لا يَهِدِّي وسائر القراآت أصلها «يهتدي» فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. قيل: هذه الشركاء جمادات فكيف قال في حقها إِلَّا أَنْ يُهْدى وأجيب بوجوه منها: أن المراد في الآية رؤساؤهم وأشرافهم كقوله:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً [التوبة: ٣١] والمراد أن الله سبحانه هو الذي يهدي الخلق إلى الدين الحق بالدلائل النقلية وبما يمكنهم منه من الدلائل العقلية، وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله. ومنها أنهم لما اتخذوها آلهة وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل كقوله: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ [فاطر: ١٤] ومنها أن ذلك بالفرض والتقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهتدي فإنها لا تهدي غيرها إلا أن تهدى. ومنها أن البنية عندنا ليست بشرط في صحة الحياة