للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلما وجدت السموات والأرض وجد عقابهم. فلو قلنا لكنهما لم يوجدا لم يلزم منه أن لا يوجد عقابهم، أو يوجد فالآية لا تدل إلا على حصول العقاب لهم دهرا طويلا ومدة مديدة. وأما إنه هل يكون له آخر أم لا فذلك إنما يستفاد من دليل آخر كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨] وأما الاستدلال بالاستثناء فقد ذكر ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء أن هذا الاستثناء لا ينافي عدم المشيئة كقولك و «الله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك» وقد يكون عزمك على ضربه البتة وتعلم أنك لا ترى غير ذلك. وردّ بالفرق، فإن معنى الآية الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء الله، فالمشيئة قد حصلت جزما. ولقائل أن يقول: الماضي هاهنا في معنى الاستقبال مثل وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [النساء: ٤٨] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الزمر: ٧٣] فلم يبق فرق. وقيل: «إلا» بمعنى «سوى» أي سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له. وقال الأصم وغيره: المراد زمان مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو في الموقف. وقيل: الاستثناء يرجع إلى قوله:

لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ كأنهم يصيرون آخر الأمر إلى الهمود والخمود. وقيل: فائدة الاستثناء أن يعلم إخراج أهل التوحيد من النار والمراد إلا من شاء ربك، وهذا التأويل إنما يليق بقاعدة الأشاعرة وأكدوه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فكأنه تعالى يقول:

أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد، وليس لأحد عليّ حكم البتة. وأما المعتزلة فكأنهم لا يرضون بهذا ويقولون: إن الاستثناء الثاني لا يساعده لحصول الإجماع على أن أحدا من أهل الجنة لا يدخل النار. فالصواب أن يقال: إنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة، فإن أهل النار ينقلون إلى الزمهرير وإلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأهل الجنة ينقلون إلى العرش أو إلى ما هو أعلى حالا من الجنة كقوله: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: ٧٢] ثم قالوا: إنه ختم آية الوعيد بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وآية الوعد بقوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ رعاية للمطابقة كأنه قال: إنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له والجذ القطع. وأما الجواب عن الحديث فقد قال في الكشاف: إن صح فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها.

وأقول: يحتمل أن يكون الألف سبب عدم الإحساس بالعذاب بل يكون سبب الالتذاذ بالمألوف فيكون خلوّ جهنم إشارة إلى هذا المعنى. وأما الجواب عن المعقول فهو أن السير في الله ومبدأه من عالم التكاليف لما كان غير متناه فعذاب البعد عنه أيضا يجب أن

<<  <  ج: ص:  >  >>