الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله، وأهل الشر إلى الهاوية، وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار فكذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم، من كانت له أذن تسمع فليسمع.
وأضرب لكم مثلا آخر يشبه ملكوت السماء، رجل آخر أخذ حبة الخردل وهي أصغر الحبوب فزرعها في قرية، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول، وجاء طير السماء فعشش في فروعها، فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله تعالى أجره وعظمه ورفع ذكره ونجا به من اهتدى. وقال: لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الطيب ويمسك النخالة، كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم، وقال: قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الرياح. وقال: لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسد، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله. وقال: نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يغزلن ولا يشخصن، ومنهن ما هو في جوف الحجر الأصم وفي جوف العود، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون؟! وقال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم. هذا ونحن نرى أن الإنسان يذكر معنى فلا يلوح كما ينبغي، فإذا ذكر المثال اتضح وانكشف. وذلك أن من طبع الخيال حب المحاكاة، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال، وإذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شك أن الثاني يكون أكمل، وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي أنزل تبيانا لكل شيء. ثم إن الله تعالى هو الذي خلق الكبير والصغير، وحكمته في كل ما خلق وبرأ عامة بالغة، وليس الصغير أخف عليه من الكبير، ولا الكبير أصعب عليه من الصغير. فالمعتبر إذن ما يليق بالقصة، فإذا كان اللائق بها الذباب والعنكبوت لخسة مضرب المثل ووهنه، فكيف يضرب بالفيل وبشيء مستحكم النسج والصفاقة؟ وهذا مما لا يخفى على من به أدنى مسكة، ولكن ديدن المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم،
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به، ويذم واشتقاقه من الحياة، يقال: حيي الرجل كما يقال نسي وحشي إذا اشتكى النسا والحشا، وكأن الحيي صار منتقص القوة منتكس الحياة وقد عرفت في الأسماء الحسنى، أن أمثال هذه الصفات