ولما عرف رسوله نعمه الدينية ورغبه فيها نفره من اللذات العاجلة الزائلة لأن كل نعمة وإن عظمت فإنها بالنسبة إلى نعمة القرآن ضيئلة حقيرة، ومنه
الحديث «من لم يتغن بالقرآن أي لم يستغن به- فليس منا»«١»
وقول أبي بكر: من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا. فمن حق قارئ القرآن الواقف على معانيه أن لا يشغل سره بالالتفات إلى الدنيا وزهرتها. قال الواحدي: إنما يكون مادّا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه. وقال في الكشاف: معنى لا تَمُدَّنَّ لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أصنافا من الكفار قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري:
الأزواج القرناء. وقال بعضهم: لا تمدن عينيك أي لا تحسدنّ أحدا على ما أوتي من الدنيا. وضعف بأن الحسد منهي عنه مطلقا فكيف يحسن تخصيص الرسول به؟ ويمكن أن يجاب بأن المراد منه نهي التكوين كقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ١٤] . أو المراد الغبطة فهي محظورة عليه صلى الله عليه وسلم لجلالة منصبه وإن كانت جائزة لأمته. ويروى أنه وافت من بلاد الشام سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله.
فقال لهم الله عز وجل: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. وإنما قال في هذه السورة لا تَمُدَّنَّ بغير واو العطف لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه. ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم أنفسهم وإن لم يحصل لهم في قلبه قدر ووزن فقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون، وكما أمره بالتكبر على الأغنياء والترفع عنهم إذا كانوا كفارا أمره بالتواضع للفقراء إذا كانوا مؤمنين فقال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الخفض نقيض الرفع، وجناحا الإنسان يداه، وخفضهما كناية عن اللين والرفق. وإنما قال في سورة الشعراء بزيادة لِمَنِ اتَّبَعَكَ [الآية: ٢١٥] لأنه قال قبله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الآية: ٢١٤] فلو لم يذكر هذه الزيادة لكان الظاهر أن اللام للعهد فصار الأمر بخفض الجناح مختصا بالأقربين من عشيرته فزيد لِمَنِ اتَّبَعَكَ [الشعراء: ٢١٥] ليعلم أن هذا التشريف شامل لجميع متبعيه من الأمة. ولما بعثه على الرفق بأهل الإيمان أمره بالإنذار لكل المكلفين فقال: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ
(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب: ٤٤. أبو داود في كتاب الوتر باب: ٢٠. الدارمي في كتاب الصلاة باب: ١٧١. أحمد في مسنده (١/ ١٧٢، ١٧٥) .