المناسبة يسمى جبرائيل روحا وعيسى روحا. وعن أبي عبيدة أن الروح هاهنا جبرائيل، والباء بمعنى «مع» أي تنزل الملائكة مع جبرائيل. وذلك أنه في أكثر الأحوال كان ينزل ومعه أقوام من الملائكة كما في يوم بدر وحنين، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وملك البحار وخزان الجنة وغيرهم. قال في الكشاف: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ أي بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد وقال غيره: من أمره معناه أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله كقوله وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: ٦٤] قال الزجاج: أَنْ أَنْذِرُوا بدل من «الروح» أي ينزلهم بأن أنذروا. و «أن» إما مفسرة لأن تنزيل الوحي فيه معنى القول، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا أي أعلموا الناس قولي: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وهو إشارة إلى استكمال القوة النظرية. وقوله: فَاتَّقُونِ رمز إلى استكمال القوة العملية ومنه يعلم أن النفس متى كملت من هاتين الجهتين حصل لها روح حقيقي وحياة أبدية وسعادة سرمدية. قال الإمام فخر الدين الرازي: إنا لا نعلم كون جبريل صادقا ولا معصوما من الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله لا من قبل شيطان خبيث، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبرائيل صادق مبرأ عن التلبيس وأفعال الشياطين، وحينئذ يلزم الدور وهذا مقام صعب. أقول: قد ذكرنا مرارا أن الفرق بين المعجز والسحر هو أن صاحب المعجز يدعو إلى الخير، وصاحب السحر يدعو إلى الشر، والفرق بين الملك والشيطان هو أن الملك يلهم بالخير، والشيطان يوسوس بضده وإذا كان الأمر كذلك فكيف تشتبه المعجزة بالسحرة وجبرائيل بإبليس ومن أين يلزم الدور؟
ولما بين الله سبحانه أن روح الأرواح وروح الأجساد هو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به، أتبعه دلائل التوحيد مبتدئا من الأشرف وهو السماويات إلى الأدون- وهو الأرضيات- فقال: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وقد مر تفسير مثله مرارا. وقوله: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه لذاته عمن يشاركه في الأزلية والقدم والتدبير والتأثير والصنع والإبداع. فالفائدة المطلوبة من هذا الكلام غير الفائدة المطلوبة من مثله في أول السورة كما ذكرنا فلا تكرار. ثم إن أشرف الأجسام بعد الفلكيات بدن الإنسان فلهذا عقب المذكور بقوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ قالت الأطباء: إن الغذاء إذا وصل إلى المعدة حصل له هناك هضم، وإذا وصل إلى الكبد حصل له فيها هضم ثان، وفي العروق له هضم ثالث، وفي جواهر الأعضاء هضم رابع، وحينئذ يصير جزءا من العضو