الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً وقوله: لَكُمْ متعلق بأنزل أو بشراب خبرا له. والشراب ما يشرب كالطعام لما يطعم والمراد أن الماء النازل من السماء قسمان: بعضه يبقى لأجل الشرب كما هو ويحتمل أن يكون الماء المحتبس في الآبار والعيون منه كقوله: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: ١٨] وبعضه يحصل منه شجر يرعاه المواشي. قال الزجاج: كل ما ينبت من الأرض فهو شجر لأن التركيب يدل على الاختلاط ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة: المراد بالشجر في الآية الكلأ.
وفي حديث عكرمة:«لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت»
أراد الكلأ. وقيل: الشجر كل ما له ساق كقوله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: ٦] والعطف يقتضي التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز، وبأن قوله: فِيهِ تُسِيمُونَ من سامت الماشية إذا رعت وأسامها صاحبها وهو من السومة العلامة لأنه تؤثر بالرعي علامات في الأرض يقتضي أن يكون الشجر هو العشب ليمكن الرعي. ورد بأن الإبل قد تقدر على رعي الأشجار الكبار. وحين ذكر مرعى الحيوان أتبعه ذكر غذاء الإنسان فقال: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ الذي هو الغذاء الأصلي وَالزَّيْتُونَ الذي هو فاكهة من وجه وغذاء من وجه لكثرة ما فيه من الدهن وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ اللتين هما أشرف الفواكه. ثم أشار إلى الثمرات بقوله: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها بقوله: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ قال في الكشاف: إنما لم يقل و «كل الثمرات» بل زاد «من» التبعيضية لأن كلها لا يكون إلا في الجنة. واعلم أنه قدم الغذاء الحيواني على الغذاء النباتي لأن النعمة فيه أعظم لأنه أسرع تشبيها ببدن الإنسان، وفي ذكر الغذاء النباتي قدم غذاء الحيوان- وهو الشجر- على غذاء الإنسان- وهو الزرع وغيره- بناء على مكارم الأخلاق وهو. أن يكون اهتمام الإنسان بحال من تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه، وإنما عكس الترتيب في قوله: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ بناء على ما هو الواجب في نفس الأمر
كقوله صلى الله عليه وسلم:«ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» .
قوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ معنى تسخير هما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب مصالحهم على سنن واحد يتعاقبان دائما كالعبد المطواع، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم كما في «الأعراف» وفي سورة إبراهيم. وهذا حسم لمادة شبهة من يزعم أن حركات الأفلاك هي المقتضية لتعاقب الليل والنهار ومسيرات الكواكب هي المستدعية للحوادث السفليات، فإنه إن سلم لهم ذلك فلا بد لتلك الحركات والمسيرات