للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الَّذِينَ صَبَرُوا على ما التزموه من شرائع الإسلام أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بالواجبات والمندوبات لا بالمباحات فإنه لا ثواب على فعلها ولا عقاب، أو نجزيهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم كقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] . ثم عمم الوعد على أي عمل صالح كان فقال: مَنْ عَمِلَ صالِحاً ولا كلام في عمومه إلا أنه زاد قوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تأكيدا وإزالة لوهم التخصيص، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم.

ثم جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصالح منتجا للثواب حيث قال: وَهُوَ مُؤْمِنٌ فاستدل به على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح فإن شرط الشيء مغاير لذلك الشيء. واختلف في الحياة الطيبة فقيل: هي في الجنة. عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة، لأن الإنسان في الدنيا لا يخلو من مشقة وأذية ومكروه لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: ٦] . بيّن أن هذا الكدح- وهو التعب في العمل- باق إلى أن يصل إلى ربه، وأما بعد ذلك فحياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا انتقال. وقال السدي: إن هذه الحياة في القبر. والأكثرون على أنها في الدنيا لقوله بعد ذلك وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وعلى هذا فما سبب طيب الحياة قيل: هو الرزق الحلال. وقيل: عبادة الله مع أكل الحلال. وقيل: القناعة أو رزق يوم

كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا» «١» .

قال المحققون: وهذا هو المختار لأن المؤمن الذي صلح عمله إن كان موسرا فذاك، وإن كان معسرا فمعه من القنوع والعفة والرضا بالقضاء ما يطيب عيشه. وأما الكافر والفاجر فإن الحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه أبدا ويعظم أسفه على ما يفوته لأنه عانق الدنيا معانقة العاشق لمعشوقه، بخلاف المؤمن المنشرح قلبه بنور المعرفة والجمال فإنه قلما ينزع لحب الدنيا مالها وجاهها ويستوي عنده وجودها وفقدها وخيرها وشرها ونفعها وضرها. وبركة الصلاح والقنوع مما لا ينكرها عاقل اللهم اجعلنا من أهلها. ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر المخصوص بشرط الإيمان وظاهر قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: ٧] يدل على أن العمل الخير مطلقا يفيد أثرا مطلقا فلا منافاة بينهما. ثم ذكر الاستعاذة التي هي من جملة الأعمال الصالحة وبها تخلص الأعمال عن الوساوس فقال: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي أردت قراءته إطلاقا لاسم المسبب على السبب. وقد مر بحث الاستعاذة مستوفى في أول هذا الكتاب. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ


(١)
رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب: ٨. أحمد في مسنده (٥/ ٧٧) بلفظ «قوتا» بلد «كفافا» .

<<  <  ج: ص:  >  >>