إلى إهلاكهم بهذا الطريق ويؤيده قوله: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي بالكفر ثم التعذيب. وقال الكعبي: إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: ١١] وقوله: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فتلك الآيات محكمة وهذه المتشابهات فيجب حمل هذه على تلك.
قال في التفسير الكبير: أحسن الناس كلاما في تأويل هذه الآية القفال فإنه ذكر وجهين: الأول أخبر الله أنه لا يعذب أحدا بما علمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره حتى يظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه.
ومعنى الآية وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم. الثاني أن نقول: وإذا أردنا إهلاك قوم بسبب ظهور العصيان منهم لم نعالجهم بالعذاب في أوّل ظهور المعصية منهم، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي. وخص المترفين بذلك لأن نعمة الله عليهم أكثر فكان الشكر عليهم أوجب، فإذا لم يرجعوا وأصروا صب عليهم البلاء صبا. وزعم الجبائي أن المراد بالإرادة الدنو والمشارفة كقولك إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة. ليس المعنى أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر، وإنما عنيت أنه سيصير إلى ذلك، فمعنى الآية وإذا قرب وقت إهلاك قرية. وقد نقلنا مثله عن صاحب الكشاف، ولا يخفى أنه عدول عن الظاهر.
ثم ذكر عادته الجارية مع القرون الخالية فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا ف كَمْ مفعول أَهْلَكْنا ومِنَ الْقُرُونِ بيان لكم وتمييز له أراد بهم عادا وثمود ونحوهما. ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة قائلا وَكَفى بِرَبِّكَ الآية. قال الفراء: إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك «كفاك به»«وأكرم به رجلا»«وطاب بطعامك طعاما» ولا يقال: قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وإنذار شديد لغيرهم لأن العلم التام مع القدرة الكاملة والحكمة الشاملة يقتضي إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. ثم أكد المعاني المذكورة من قوله: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ومن قوله: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي المنفعة أو الدار العاجلة عَجَّلْنا لَهُ فِيها ثم قيد المعجل بقيدين: أحدهما قوله: ما نَشاءُ ولهذا ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه.
وثانيهما قوله: لِمَنْ نُرِيدُ وهو بدل من لَهُ بدل البعض من الكل لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو للعموم، ولهذا ترى كثيرا منهم يتمنون البعض اليسير من الدنيا ولا يؤتون فيجتمع عليهم فقر الدنيا وحرمان الآخرة بل عذابها لقوله: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها