للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

موسى ظن فرعون بظنه فقال: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال الفراء: أي ملعونا محبوسا عن الخير من قولهم «ما ثبرك عن هذا» أي ما منعك وصرفك. وقال مجاهد وقتادة، أي هالكا من الثبور الهلاك. ولا ريب أن ظن موسى أصح من ظنه لأن إنكار ما علم صحته يستعقب لا محالة ويلا وثبورا وحسرة وندامة ولهذا قال: فَأَرادَ أي فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي يستخف موسى وقومه من بسيط الأرض أو من أرض مصر بالقتل والاستئصال أو بالنفي والإخراج. والحاصل أن فرعون عورض بنقيض المقصود فأغرق هو وقومه وأسكن بنو إسرائيل مكانه تحقيقا لقوله: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: ٣٤] ثم أخبر عن المعاد قائلا فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وهو قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ يعني معشر المكلفين كلهم لَفِيفاً جماعات من قبائل شتى ذوي أديان ومذاهب مختلفة، وذلك لأجل الحكم والجزاء والفصل والقضاء.

ولما بين إعجاز القرآن وأجاب عن شبهات القوم أراد أن يعظم شأن القرآن ويذكر جلالة قدره فقال: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ التقديم للتخصيص أي ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق في مركزه وتمكين الصواب في نصابه. قال جار الله: أي ما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبسا بالحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظ بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين. وقال آخرون: الحق هو الثابت كما أن الباطل هو الزاهق، ولا ريب أن هذا الكتاب الكريم يشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام، وعلى تعظيم الملائكة وإقرار النبوات وإثبات المعاد، وعلى أصول الأديان والملل التي لا يتطرق إليها النسخ والتبديل، وكل هذه الأمور تدل على المعنى المذكور لأنها مما تبقى ببقاء الدهور. قال أبو علي الفارسي: بالباء في الموضعين بمعنى «مع» كما في قولك «خرج بسلاحه» أي أنزل القرآن مع الحق ونزل هو مع الحق. ويحتمل أن تكون الباء الثانية بمعنى «على» كما في قولك «نزلت بزيد» فيكون الحق عبارة عن محمد صلى الله عليه وآله لأن القرآن نزل به أي عليه وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً بالجنة وَنَذِيراً من النار ليس إليك وراء هذين شيء من إكراه على الدين والإتيان بشيء مما اقترحوه. ثم إن القوم كأنهم من تعنتهم طعنوا في القرآن من جهة أنه لم ينزل دفعة واحدة فأجاب عن شبهتهم بقوله:

وَقُرْآناً وهو منصوب بفعل يفسره فَرَقْناهُ أي جعلنا نزوله مفرقا منجما. وعن ابن عباس أنه قرأه مشددا وقال: إنه لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة يعني أن فرق بالتخفيف يدل على فصل مقارب. وقال أبو عبيدة: التخفيف

<<  <  ج: ص:  >  >>