الكاذب يستحيل أن يظهر منه الفعل الخارق وإليه ذهب جمهور المعتزلة، وخالفهم أبو الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وجوزا ظهور خوارق العادات على من كان مردودا على طاعة الله وسموه بالاستدراج. وقد يفرق بين النبي الصادق والساحر الخبيث بالدعاء إلى الخير والشر وإن كان مقرونا بدعوى الولاية فصاحبه هو الولي، ومن المحققين من لم يجوّز للولي دعوى الولاية لأنه مأمور بالإخفاء كما أن النبي مأمور بالإظهار. ثم إن المعتزلة أنكروا كرامات الأولياء وأثبتها أهل السنة مستدلين بالقرآن والأخبار والآثار والمعقول. أما القرآن فكقصة مريم ونبأ أصحاب الكهف. قال القاضي: لا بد أن يكون في ذلك الزمان نبي تنسب إليه تلك الكرامات. وأجيب في التفسير الكبير بأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأحد، وأما قيامهم من النوم بعد ثلاثمائة سنة فهذا أيضا لا يمكن جعله معجزة لأن الناس لا يصدقونهم في هذه الواقعة لأنهم لا يعرف كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلاثمائة وتسع سنين، وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء، فلم يبق إلا أن تجعل كرامة لهم.
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون نفس بعثهم معجز النبي هذا الزمان؟ وأما أن ذلك البعث بعد نوم طويل فيعرف بأمارات أخر كما مر من حديث الدرهم وغيره. وأما الأخبار فمنها ما
أخرج في الصحاح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصبي في زمان جريج وصبي آخر. أما عيسى فقد عرفتموه، وأما جريج فكان رجلا عابدا في بني إسرائيل وكانت له أم وكان يوما يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت: يا جريج فقال: يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى. فدعته ثانيا مثل ذلك حتى كان ذلك ثلاث مرار. وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه فقالت:
اللهم لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت في بني إسرائيل زانية فقالت لهم: أنا أفتن جريجا حتى يزني فأتته فلم تقدر عليه شيئا وكان هناك راع يأوى بالليل إلى أصل صومعته فأرادت الراعي على نفسها فأتاها فولدت غلاما وقالت: ولدي هذا من جريج. فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام. قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال بيده يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب وفضة فأبى عليهم وبناها كما كانت. وأما الصبي الآخر فإن امرأة كانت معها صبي ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا. فقال الصبي: اللهم لا تجعلني مثله.