العبد في عين المعصية ونصيبه في الأزل هو المحبة وقد يكون في عين الطاعة ونصيبه المبغضية، ولهذا لا يحصل الجزم بكيفية الخاتمة. قيل: من هنا قال سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] ولم يقل من عمل حسنة. ومن كانت محبته لا لعلة امتنع أن يصير عدوّا لعلة المعصية وبالعكس، ومحبة الحق وعداوته من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا الله أو من أطلعه عليها الله. وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري:
إن للولاية ركنين: أحدهما انقياد للشريعة في الظاهر، والثاني كونه في الباطن مستغرقا في نور الحقيقة. فإذا حصل هذان الأمران وعرف الإنسان ذلك عرف لا محالة كونه وليا، وعلامته أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله. قلت: لا ريب أن مداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة، ودون الوصول إلى عالم الربوبية حجب وأستار من نيران وأنوار، فالجزم بالولاية خطر والقضاء بالمحبة عسر والله تعالى أعلم.
قال المفسرون: إن اليهود حين قالت لقريش: سلوا محمدا عن مسائل ثلاثة عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوهن قال صلى الله عليه وسلم: أجيبكم عنها غدا ولم يستثن فاحتبس الوحي عنه خمس عشرة ليلة. وقيل: أربعين يوما ثم نزل قوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً
أي لأجل شيء تعزم عليه ليس فيه بيان أنه ماذا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فقال العلماء: إنه لا يمكن أن يكون من تمام قوله إِنِّي فاعِلٌ إذ يصير المعنى إلا أن يشاء الله أن لا أفعله أي إلا أن تعرض مشيئة الله دون فعله وهذا ليس منهيا عنه. فالصواب أن يقال: إنه من تمام قوله: وَلا تَقُولَنَّ ثم إن قدر المراد إلا أن يشاء الله أن تقول إني فاعل ذلك غدا أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد بعينه. وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن تقوله بأن يأذن لك في ذلك الإخبار كان معنى صحيحا، ولكنه لا يكون موافقا لسبب النزول. فالمعنى الموافق هو أن يكون قوله هذا في موضع الحال أي لا تقولنه إلا متلبسا بأن يشاء الله يعني قائلا إن شاء الله. وهذا نهي تأديب لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غدا لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد أو يعوقه عن ذلك عائق، فلو لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في هذا الوعد والكذب منهي وجوز في الكشاف أن يكون إِنْ شاءَ اللَّهُ في معنى كلمة تأبيد كأنه قيل: ولا تقولنه أبدا. قال أهل السنة: في صحة الاستثناء بل في وجوبه دلالة على أن إرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة ويؤكده أنه إذا قال المديون القادر على أداء الدين: والله لأقضين هذا الدين غدا ثم قال: إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض لم يحنث بالاتفاق، وما ذاك إلا لأن الله ما شاء ذلك الفعل مع أنه أمره بأداء الدين، وإنما لم يقع الطلاق في قول الرجل لامرأته: أنت