والجود، فإن فيضه لا ينقطع ولا تقصير إلا من القابل، فكلما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض اليه لا محالة. وأيضا يستحق المبالغة من جهة أخرى وهي كثرة عدد المذنبين المستلزمة لكثرة التائبين المستتبعة لكثرة قبول التوبة ووصفه بالرحمة.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر، وإذا آل حال أبينا إلى هذا من خطيئة واحدة فمن أحاطت به خطاياه أحق بالبكاء»
ولذا
قال نبينا صلى الله عليه وسلم «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة»«١»
فنحن أحق بالاستغفار، فإن الغين يكاد يكون بالنسبة إلينا رينا، وذلك أن الغين شيء يغين أي يغشى القلب ويغطيه بعض التغطية كالغيم الرقيق لا يحجب الشمس، ولكن يمنع كمال ضوئها.
والرين ما استحكم من ذلك حتى صار القلب ممتنعا بالكلية عن قبول الحق وذلك صفة الكفار كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: ١٤] . قيل في تأويل الحديث: إن الله تعالى أطلع نبيه على ما سيكون في أمته من الخلاف والشقاق، وكان إذا ذكر ذلك وجد غينا في قلبه فاستغفر لأمته. قيل: كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فيستغفر مما كان. وقيل: الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانيا عن نفسه بالكلية، فإذا عاد إلى الصحو استغفر من ذلك الصحو، وهذا تأويل أرباب الحقيقة. وقال أهل الظاهر: إن القلب لا ينفك عن الخطرات والشهوات وأنواع الإرادات، فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر. وعن ثابت البناني: بلغنا أن إبليس قال: يا رب، إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه. فقال سبحانه:
جعلت صدورهم مساكن لك. فقال: رب زدني. فقال: لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة. قال: رب زدني. قال: تجري منه مجرى الدم. قال: رب زدني. قال: اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد. قال: فشكا آدم إلى ربه فقال: يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطته علي وأنا لا أطيقه إلا بك. فقال الله تعالى: لا يولد ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء. قال: رب زدني.
قال: الحسنة بعشر أمثالها. قال: رب زدني. قال: لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر، والغرغرة تردد الروح في الحلق. وسئل ذو النون عن التوبة فقال: إنها اسم جامع لمعان ستة: أولها الندم على ما مضى، وثانيها العزم على ترك الذنوب في المستقبل،
(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ٤١. أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٦.