للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن مثل هذا الوعظ يصير سببا للمعصية لأن الناس يقولون لولا أن هذا الواعظ مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المناهي، فيكون داعيا لهم إلى التهاون بالدين والجرأة على المعاصي، وهذا مناف للغرض من الوعظ فلا يليق بالعقلاء. ومنها أن غرض الواعظ ترويج كلامه وتنفيذ مرامه، فلا خالف إلى ما نهى عنه صار كلامه بمعزل عن القبول وهذا خلاف المعقول. قال بعضهم: ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استدلالا بهذه الآية، وبقوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: ٢] وبأن الزاني بامرأة يقبح منه أن ينكر عليها، وأجيب بأن المكلف مأمور بشيئين: ترك المعصية، ومنع الغير عنها، والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر. والذم في الآية مترتب على الشق الثاني وهو نسيان النفس لا على مجموع الأمرين، قالوا: وحديث القبح ممنوع.

قلت: والحق أنه مكابرة،

فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار. فقلت: يا أخي يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم» «١»

وقال صلى الله عليه وسلم «إن في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه» . فقيل: من هو يا رسول الله؟ قال: عالم لا ينتفع بعلمه»

وقال صلى الله عليه وسلم «مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه»

وعن الشعبي:

يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون: لم دخلتم النار فإنا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم؟ فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله. وقيل: من وعظ بقوله ضاع كلامه، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه. وقيل: عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل. روي أن يزيد بن هارون مات- وكان واعظا زاهدا مات- فرؤي في المنام فقيل: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وأوّل ما سألني منكر ونكير فقالا: من ربك؟ فقلت: أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك. وقيل للشبلي عند النزع: قل لا إله إلا الله. فقال:

إن بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى سرج

ولما أمرهم الله تعالى بالإيمان وترك الإضلال وبالتزام الشرائع وموافقة القول للفعل وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه، عالج الله تعالى هذا المرض بقوله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فكأنه قيل: واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر أي حبس


(١) رواه أحمد في مسنده (٣/ ١٢٠، ٢٣١، ٢٣٩) .

<<  <  ج: ص:  >  >>