للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القرون، وكان كل قرن يوصون من بعدهم من الأبناء أن يكذبوا نوحا. والبلاغ ذكر المسائل والإبانة وإقامة البرهان عليه، وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإلا لم يكن البلاغ مبينا. وحين بين التوحيد والرسالة شرع في بيان المعاد فإن هذه الأصول الثلاثة لا تكاد تنفصل في الذكر الإلهي فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يعلموا بالبرهان النير القائم مقام الرؤية كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثم يعيده. أما إبداء الخلق المطلق فلأن المخلوق لا بد له من خالق أوّل تنتهي إليه سلسلة المخلوقات، وأما خلق الإنسان بل كيفيته فإنه كالمشاهد المحسوس فإنا نرى النطفة وقعت في الرحم فدارت عليها الأطوار حتى حصلت خلقا آخر. وأما الإعادة فلأنها أهون في القياس العقلي ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وحين أشار إلى العلم الحدسي الحاصل من غير طلب أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أو حكى إبراهيم قول ربه له قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي إن لم يحصل لكم الحدس المذكور فسيروا في أقطار الأرض وتفكروا في كيفية تكوّن المواليد الثلاثة: المعادن والنبات والحيوان. حتى يفضى بكم النظر إلى العيان فالآية الأولى إشارة إلى ما هو كالمركوز في الأذهان ولهذا قال بطريق الاستفهام أَوَلَمْ يَرَوْا الآية الثانية أمر بالنظر المؤدي إلى العلم والإيقان على تقدير عدم حضور ذلك البيان والعيان. وإنما قال أوّلا كَيْفَ يُبْدِئُ بلفظ المستقبل وثانيا كَيْفَ بَدَأَ بلفظ الماضي، لأن العلم الحدسي حاصل في كل حال، وأما العلم الاستقرائي فلا يفيد اليقين إلا فيما شاهد وتتبع فكأنه قيل: إن لم يحصل لكم العلم بأن الله في كل حال موصوف بالإبداء والإعادة فانظروا في أصناف المخلوقات حتى تعرفوا أنه كيف بدأها ثم تستدلوا من ذلك على أنه ينشئها النشأة الثانية، فهذا عطف على المعنى كأنه قال: وانظروا كيف بدأ هذا. وتكلف جار الله فقال: هو معطوف على جملة قوله أَوَلَمْ يَرَوْا كما قال قوله ثُمَّ يُعِيدُهُ إخبار على حياله وليس بمعطوف على يُبْدِئُ ثم في إقامة اسم الله مقام الضمير في قوله ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ إشارة إلى أنه لا يقدر على هذه النشأة إلا المعبود الكامل الذات المتصف بالعلم والحياة وبسائر نعوت الجلال. وحين ذكر دلائل الأنفس والآفاق صرح بالنتيجة الكلية فقال إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإبداء والإعادة قَدِيرٌ وكذا على التكليف والجزاء تقريره قوله

يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ يقال: قلب فلان في مكانه إذا أردى. وفي الآية لطائف منها: أنه قدم التعذيب على الرحمة مع

قوله «سبقت رحمتي غضبي» «١»

لأن الآية مسوقة لتهديد المكذبين ومع ذلك لم يخل الكلام عن ذكر الرحمة وإنه يؤكد

قوله «سبقت رحمتي غضبي» «٢»

ومنها أنه لم يقل يعذب


(١، ٢) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥، ٢٢، ٢٨. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤- ١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>