للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصَّالِحاتِ

ومعنى يَمْهَدُونَ يوطؤن كما يسوّي الراقد مضجعه، وجوز جار الله أن يراد فعلى أنفسهم يشفقون من قولهم: في المشفق أم فرشت فأنامت. وذلك أن الإشفاق يلزمه التمهيد عرفا وعادة. ثم بين غاية التمهيد بقوله لِيَجْزِيَ وقوله مِنْ فَضْلِهِ عند أهل السنة ظاهر: وحمله المعتزلة على شبه الكناية لأن الفضل تبع للثواب فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له، أو الفضل بمعنى العطاء والثواب. وفي قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ وعيد عظيم لهم لأنه إذا لم يحبهم أرحم الراحمين فلا يتصور لهم خلاص من عذابه ولا مناص ولا رحمة من جهته ولا نعمة، وفيه تعريض بأنه يحب المؤمنين ولا وعد أعظم من هذا ولا شرف فوق ذلك. قال جار الله: تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس. قلت: يشبه أن يكون مراده أنه ذكر الكافر أولا ثم المؤمن، وفي الآية الثانية قرر أولا أمر المؤمن ثم أردفه بتقرير أمر الكافر. أو أراد أن قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دل بصريحه على ثواب المؤمن وبتعريضه على حرمان الكافر، وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ دل بصريحه على حرمان الكافر وبتعريضه على ثواب المؤمن. فالأول طرد والثاني عكس وكل منهما مقرر للآخر. وحين ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح وبين أنه من دلائل الوحدانية بقوله وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لما مر من أن الكريم لا يذكر، لإحسانه سببا ويذكر لأضراره سببا. ومن قرأ على التوحيد فللدلالة على الجنس، ومن قرأ على الجمع فإما لأنه أراد الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة دون الدبور التي هي للعذاب، وإما لأن أكثر الرياح نافعة والضارة كالسموم قليلة جدا لا تهب إلا حينا، وإما لأن الرياح إذا اجتمعت وتزاحمت وتراكمت حتى صارت ريحا واحدا أضرت بالأشجار والأبنية وقلعتها وإذا تفرقت وصارت رياحا اعتدلت ونفعت. قوله مُبَشِّراتٍ أي بالمطر كقوله بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: ٥٧] وقيل: أي بتصحيح الأهوية وإصلاح الأبدان.

وقوله وَلِيُذِيقَكُمْ إما معطوف على ما قبله معنى كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم بعض رحمته لأن راحات الدنيا زائلة لا محالة، وإما معطوف على محذوف أي وليكون كذا وكذا أرسلناها. وفي قوله بِأَمْرِهِ إشارة إلى أن مجرد هبوب الريح لا يكفي في جريان الفلك ولكنها تجري بإذن الله وجعله الريح على اعتدال وقوام. وفي قوله وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ دلالة على أن ركوب البحر لأجل التجارة جائز. وفي قوله وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إشارة إلى أن نعم الله تعالى يجب أن تقابل بالشكر. وإنما بنى الكلام في هذه الآية على الخطاب بخلاف

<<  <  ج: ص:  >  >>