الإعراض عقيب التذكير وقد سبق. وقال أهل المعاني:«ثم» هاهنا تدل على أن الإعراض بعد التذكير مستبعد في العقول. قال المحققون: الذي لا يحتاج في معرفة الله إلّا إلى الله عدل كقوله أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: ٥٣] كما قال بعضهم: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. والذي يحتاج في ذلك إلى دلائل الآفاق والأنفس متوسط، والذي يقر عند الشدة ويجحد عند الرحمة ظالم كقوله وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم: ٣٣] والذي يبقى على الجحود والإعراض وإن عذب فلا أظلم منه. وحين جعله أظلم كان ظالم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ليدل على إصابة الأظلم منهم النصيب الأوفر من الانتقام. ولو قال «إنا منهم منتقمون» لم يكن بهذه الحيثية في الإفادة. ثم عاد إلى تأكيد أصل الرسالة مع تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قال جار الله:
اللام للجنس ليشمل التوراة والفرقان. والضمير في لِقائِهِ للكتاب أي آتينا موسى مثل ما آتيناك ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله. واللقاء بمعنى التلقين والإعطاء كقوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النمل: ٦] وقيل: الضمير في لِقائِهِ لموسى أي من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة، أو من لقاء موسى الكتاب وهو تلقيه له بالرضا والقبول. والضمير في جَعَلْنا للكتاب على أنه منزل على موسى.
واستدل به على أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. ثم حكى أن منهم من اهتدى حتى صار من أئمة الهدى وذلك حين صبروا أو لصبرهم على متاعب التكليف ومشاق الدعاء إلى الدين بعيد إيقانهم به. وفيه أن الله تعالى سيجعل الكتاب المنزل على نبينا أيضا سبب الاهتداء والهداية وكان كما أخبر. ومثله
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»
ولا يخفى أن «من» التبعيضية في قوله وَجَعَلْنا مِنْهُمْ كانت تدل على أن بعضهم ليسوا أئمة الهدى، وفيه رمز إلى أن بعضهم كانوا أئمة الضلال فلذلك قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ الآية. وفيه إشارة إلى أنه سبحانه سيميز المحق في كل دين من المبطل. ثم أعاد أصل التوحيد مقرونا بالوعيد قائلا أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقد مر نظيره في آخر «طه» وإنما قال في آخر الآية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ على الجمع ليناسب القرون والمساكن. وإنما قال أَفَلا يَسْمَعُونَ لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع. وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة. ومعنى نَسُوقُ الْماءَ نسوق السحاب وفيه المطر إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ وهي التي جز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل. قال جار الله: ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدلالة قوله فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً وعن ابن عباس أنها أرض اليمن،