للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من كل منها ما يتلوها لتقاربها، أو ظاهرة للسابلة لكونها على متن الطريق. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فيقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في أخرى، فمنازل ما بين تلك القرى مقدّرة ومعلومة لا يجاوزها المسافر عرفا بخلاف المفاوز فإن السائر يسير فيها بقدر طاقته حتى يقطعها. ثم بين أمن تلك الطريق بقوله سِيرُوا أي قلنا لهم سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار. قال أهل البيان: لا قول ثمة ولكنهم مكنوا من السير بتهيئة أسبابه من وجدان الزاد والراحلة وعدم المخاوف والمضارّ فكأنهم أمروا بذلك. والمقصود من ذكر الليالي والأيام تقرير كمال الأمن ولذلك قدمت الليالي فإنها مظنة الآفات. ويمكن تقرير الأمن بوجه آخر وهو أن يقال: سيروا فيها وإن تطاولت مدّة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي، أو يراد بالليالي والأيام مدّة أعمارهم أي سيروا فيها مدّة عمركم فإنكم لا تلقون إلا الأمن.

ثم حكى أنهم سئموا العيش الهنيء وملوا الدعة والراحة كما طلب بنو إسرائيل البصل والفوم مكان المن والسلوى فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أرادوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزوّدوا الأزواد قائلين: لو كان جني جناتنا أبعد كان أشهى وأرغد. ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدّة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره: اضربني مشيرا بذلك إلى أنه لا يقدر عليه. ومن قرأ على الابتداء والخبر فالمراد استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بوضع الكفر موضع الشكر فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم كل تفريق فلا جرم اتخذ الناس حالهم مثلا قائلين «ذهبوا أيدي سبأ» أي في طرق شتى. واليد في كلام العرب الطريق يقال: سلك بهم يد البحر. وقيل: الأيادي الأولاد لأنه يعضد بهم كما بالأيدي. والمعنى ذهبوا تفرق أولاد سبأ فلحق غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والتمزيق لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ للنعم أو صبار على النعم حتى لا يلحقه البطر شكور لها برعاية حق الله فيها. ثم أخبر عن ضعف عزم الإنسان بقوله وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ أي على بني آدم لقرينة الحال.

وقيل: على أهل سبأ وظن إبليس هو قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: ٣٩] أو قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [ص: ٧٦] بدليل قوله فَاتَّبَعُوهُ والمتبوع خير من التابع. ولا ريب أن الكافر أدون حالا من إبليس لأنه خالف أمر الله في سجدة آدم والكافر يجحد الصانع أو يشرك به. ثم بين قوله وَما كانَ لَهُ أن الشيطان ليس بملجىء ولكنه آية وعلامة يتميز به ما هو السابق في علمه من المقرّ والشاك. والحفيظ المحافظ ويدخل في مفهوم الحفظ العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه وكذا العاجز.

<<  <  ج: ص:  >  >>