أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: ١١٦] قالُوا سُبْحانَكَ ننزهك عن أن نعبد غيرك أنت الذي نواليك ونعادي غيرك في شأن العبادة بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ حيث أطاعوهم في عبادة غيرك فهم كانوا يطيعونهم وكنا نحن كالقبلة، أو صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام فيعبدون بعبادتها. وإنما قالوا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ وما ادّعوا الإحاطة لأن الذين رأوهم وأطلعهم الله على أحوالهم كانوا كذلك ولعل في الوجود من لا يطلع الله الملائكة عليه من الكفار.
وأيضا أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن، والاطلاع على عمل القلب كما هو ليس إلا الله وحده فراعوا الأدب الجميل والحكم على الظاهر أكثري. ثم ذكر أن الأمر في ذلك اليوم لله وحده والخطاب في قوله لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ للملائكة والكفار وإن كان الكفار غائبين كما تقول لمن حضر عندك ولمن شاركه في أمر بسببه: أنتم قلتم كذا على معنى أنت قلت وهم قالوا. ويحتمل أن يكون الخطاب للكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم أو لهم وللملائكة أيضا بهذا التأويل، وعلى الأول يكون قوله وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا إفرادا للكفرة بالذكر، وعلى الوجه الآخر يكون تأكيدا لبيان حالهم في الظلم وذكر الضر تأكيد لعدم تملكهم شيئا وإلا فهو غير متصور في ذلك اليوم. وإنما قال هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وفي السجدة عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ [الآية: ٢٠] لأنهم هناك قد رأوا النار بدليل قوله كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [الآية: ٢٠] فقيل لهم ذوقوا العذاب المؤبد الذي كنتم به تكذبون في قولكم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] وهاهنا لم يروا النار. وقيل: لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فناسب التوبيخ على تكذيبهم بالنار. ثم حكى أكاذيبهم بقوله وَإِذا تُتْلى الآية. ولا يخفى ما فيه من المبالغات. ثم بين أن أقوالهم هذه لا تستند إلا إلى محض التقليد فقال وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية وما لهم من دليل أو بالنقليات وما عندهم من كتاب ولا رسول غيرك وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع. قال الأكثرون: معناه وما بلغ هؤلاء المشركون عشر ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر. ثم إن الله أخذهم وما نفعهم محصولهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟. وقال بعضهم: أراد وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما آتينا قوم محمد صلى الله عليه وسلم من البيان والبرهان لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفصح الرسل وكتابه أوضح الكتب. ثم إن المتقدمين أنكر عليهم تكذيبهم فكيف لا ينكر على هؤلاء؟ قال جار الله: قوله فَكَذَّبُوا رُسُلِي بعد قوله وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تخصيص بعد تعميم كأنه قيل: وفعل الذين من قبلهم التكذيب فكذبوا رسلي؟ نظيره قول القائل: أقدم