«وإليه أرجع» كأنه جعل نفسه ممن يعبد الله لذاته لا لرغبة أو رهبة. ثم أراد كمال التوحيد فقال أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فقوله ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي فيه إقرار بوجود الصانع الفاطر، وقوله أَأَتَّخِذُ على سبيل الإنكار نفي لغيره ممن يسمى إلها وبهما يتم معنى لا إله إلا الله. ثم عرض على عقولهم جهل عابدي الأصنام أنهم لا يقدرون على دفع ضر ولا على إيصال نفع، وقد رتب الكلام فيه على ترتيب ما يقع بين العقلاء فإن الذي يريد أن يدفع الضر عن شخص يقدم على الشفاعة له، فإن قبلت وإلا أنقذه أي خلصه بوجه من الوجوه.
قال بعض المفسرين: لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين. قال إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعوا قولي لتشهدوا لي. وإنما قال بِرَبِّكُمْ ولم يقل «بربي» ليتعين أنه آمن بالرب الذي دعوه إليه. وقال أكثرهم: الخطاب للكفار وعلى هذا فالمراد به بيان التوحيد أي ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وفطركم فاسمعوا قولي وأطيعوني. وفي قوله قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ وجهان أحدهما. أنه قتل. ثم كأن سائلا سأل: كيف لقاؤه ربه بعد ذلك التصلب في نصرة الدين حتى بذل مهجته؟ فقيل: قيل ادخل الجنة. والقائل هو الله سبحانه أو الملائكة بأمره. قال جار الله: لم يذكر المقول له لانصباب الغرض إلى المقول وعظم شأنه ولأنه معلوم. ثم كأن سائلا آخر سأل: أيّ شيء تمنى في الجنة؟ فقيل: قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ وإنما تمنى علم قومه بحاله ليصير ذلك سببا لهم في التوبة والإيمان ليفوزوا بما فاز ويؤيده ما روي في حديث مرفوع أنه نصح قومه حيا وميتا. ويجوز أن يكون سبب التمني هو أن ينبهوا على خطئهم في أمره وعلى صوابه في رأيه وأن عداوتهم لم تعقبه إلا سعادة وكرامة. وثانيهما أن الرسل بشروه وهو حيّ بدخول الجنة فصدّقهم وتمنى علم قومه بحاله فيؤمنوا كما آمن. و «ما» في قوله بِما غَفَرَ مصدرية أو موصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب، أو استفهامية يعني بأي شيء غفر لي أراد ما جرى بينه وبينهم من المصابرة والذب عن الدين إلا أن طرح الألف أجود. فقول القائل: علمت بم صنعت هذا أحسن من قوله «بما صنعت» فقوله غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بإزاء قوله فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ثم أشار إلى كيفية إهلاك قومه بعده قائلا وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ قال المفسرون: يجوز أن يريد بقومه الذين بقوا من أهل القرية بعد المؤمنين منهم وأن يريد به أقاربه فلعل غيرهم من قوم الرسل آمنوا فلم يصبهم العذاب. ثم قال وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء، ومن هنا يعلم فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على غيره فقد أنزل الله لأجله الجنود من السماء يوم بدر والخندق وحنين وما أنزلها لغيره من نبي فضلا عن حبيب، فشتان بين حبيب الجبار وبين حبيب النجار.
فالحاصل أنه تعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها