تعالى: يا محمد فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واقطع الكلام معهم في هذه المسألة واشرع في كلام آخر أجنبي في الظاهر وهو قصة داود إلى قوله إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ فكل من سمع هذا قال: نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق كأنه قال:
أيها المكلف إني لا آمرك مع أني رب العالمين إلا بالحق فههنا الخصم يقول: نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق، فعند هذا يلتزم صحة القول بالحشر وإلّا لزم التسوية بين من أصلح واتقى ومن أفسد وفجر وذلك ضدّ الحكمة. وحين ذكر هذه الطريقة الدقيقة في إلزام المنكرين وإفحامهم وصف القرآن بالبركة والإفادة والإرشاد، لأن هذه الطائف لا تستفاد إلا منه.
وبعد تتميم قصة داود شرع في قصة ابنه سليمان ومدحه بقوله نِعْمَ الْعَبْدُ أي هو فحذف المخصوص للعلم به. وفي قوله إِنَّهُ أَوَّابٌ كما مر في قصة داود إشارة إلى أنه كان شبيها بالأب في الفضيلة والكمال فلذلك استويا في جهة المدح. وفي القصة واقعتان يمكن تقرير كل منهما كما في واقعة أبيه على وجه لا يقدح في العصمة وهو المختار عند المحققين، وعلى وجه دون ذلك وهو الأشهر فلنفسر كلا منهما بالوجهين بتوفيق الله تعالى.
أما الأوّل من الواقعة الأولى فقوله إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ وهي جمع صافن وهو الذي يقوم على ثلاث قوائم وعلى طرف الرابعة وهو نعت جيد للخيل. قيل: الصافن الذي يجمع بين يديه.
وفي الحديث «من سرّه أن يقوم الناس له صفوفا فليتبوّأ مقعده من النار»
أي واقفين مثل خدم الجبابرة. والْجِيادُ جمع جواد وهو جيد الجري يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال. وإذا أجريت كانت سراعا في جريها، فإذا طلبت لحقت، وإذا طلبت لم تلحق. يروى أن رباط الخيل كان مندوبا في شرعهم كما في شرعنا. ثم إن سليمان سلام الله عليه احتاج إلى الغزو فجلس بعد صلاة الظهر على كرسيه وأمر بإحضار الخيل، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي سمى الخيل خيرا لتعلق الخير بها كما
جاء في الحديث «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة»«١»
أي آثرت حب الخير ولزمته لأن ربي أمرني بارتباطها ولم يصدر حب هذه المحبة الشديدة إلا عن ذكر الله وأمره. والضمير في قوله حَتَّى تَوارَتْ للخيل أي ما زالت تعرض
(١) رواه البخاري في كتاب المناقب باب ٢٨. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٢٥. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٤١. ابن ماجة في كتاب التجارات باب ٢٩. الدارمي في كتاب الجهاد باب ٣٣. الموطأ في كتاب الجهاد حديث ٤٤. أحمد في مسنده (٣/ ٢٩) .