عليه التراب وسبوه فمكث على ذلك أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته.
وكان ذلك الشيطان يقضي بين الناس ويتمكن من جميع ملكه إلا نساءه. وقيل: من جميع ملكه ونسائه وما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة، فلما أراد الله أن يرد الملك إليه أنكر علماء بني إسرائيل قضية قضاها الشيطان فأحضروا التوراة، فلما قرؤها فرّ الشيطان وألقى الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فصادها صائد ووهبها لسليمان وأعطاها على أجرة عمله يوما فأخرج من بطنها الخاتم ثُمَّ أَنابَ أي رجع على ملكه أو ثاب ووقع ساجدا. ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تابوت وسده بالنحاس وألقاه في البحر. والعلماء المتقنون أبوا قبول هذه الرواية وقالوا: إنها من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل وإلا ارتفع الأمان عن الشرائع والأديان، وكيف يسلطهم الله على آحاد عباده فضلا عن أنبيائه حتى يغيروا أحكامهم ويفجروا بنسائهم. وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع والسجود للصورة إذا كان بغير إذنه فلا عتب عليه.
وحكى الثعلبي هذه القصة بوجه أقرب إلى القبول وهو أن سليمان لما افتتن بأخذ التمثال في بيته سقط الخاتم من يده فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط، فلما رآه لا يثبت في اليد أيقن بالفتنة فقال له آصف: إنك لمفتون فتب إلى الله واشتغل بالعبادة وأنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك. فقام آصف في ملكه أربعة عشر يوما وهو الجسد الذي ألقي على كرسيه، فردّ الله إليه ملكه وأثبت الخاتم في يده.
وعن سعيد بن المسيب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه: يا سليمان احتجبت عن عبادي وما أنصفت مظلوما عن ظالم، ثم ذكر القصة وأخذ الشيطان الخاتم ورجوعه إليه.
ثم حكى الله تعالى أن سليمان قال رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً قدم المغفرة على طلب الملك كما هو دأب الصالحين تقديما لأمر الدين على أمر الدنيا، ولأن الاستغفار يجر الرزق فإن الإنسان قلما ينفك عن ترك الأولى فإذا زال عنه شؤم ذلك ببركة الاستغفار انفتح عليه أبواب الخيرات.
والذين حملوا الفتنة على صدور الذنب عنه فوجوب الاستغفار عندهم واضح وحملوا قوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي على أنه سأل ملكا لا يقدر الشيطان على أن تقوم مقامه.
والأوّلون ذهبوا إلى أنه لم يقل ذلك حسدا وإنما قصد به أن يكون معجزة له، ومن شرط المعجز أن لا يقدر غيره على معارضته ولا سيما أمته الذين بعث إليهم ولهذا قال بعضهم:
أراد غيري ممن بعثت إليهم ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة. وحقيقة لا ينبغي لا ينفعل من بغيت الشيء طلبته أي لا يصير مطلوبا لأنه سماوي فوق طوق البشر، أو قصد أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق فإذا كان ملكه آية كان ثوابه على الصبر عنه غاية