الدنيا حسنة. قال جار الله: فالظرف بيان لمكان الحسنة. ويحتمل أن يقال: إنه نصب على الحال لأنه نعت للنكرة قدّم عليها. والقائلون بهذا القول فسروا الحسنة بالصحة والعافية وضم بعضهم إليها الأمن والكفاية. ورجح الأوّل بأن هذه الأمور قد تحصل للكفار على الوجه الأتم فكيف تجعل جزاء للمؤمن المتقي. وقيل: هي الثناء الجميل. وقيل: الظفر والغنيمة. وقيل: نور القلب وبهاء الوجه. وفي قوله وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إشارة إلى أن أسباب التقوى إن لم يتيسر في أرض وجبت الهجرة إلى أرض يتيسر ذلك فيها فيكون كقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء: ٩٧] وعن أبي مسلم: هي أرض الجنة لأنه حين بين أن المتقي له الجنة وصف أرض الجنة بالسعة ترغيبا فيها كما قال نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: ٧٤] إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة الأوطان وتجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وتكاليفه أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا يحاسبون أو بغير حصر.
قال جار الله: عن النبي صلى الله عليه وسلم «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا» ثم تلا الآية وقال: حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل.
النوع الثاني قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ
قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدّك وسادة قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله هذه الآية.
وكأنه إشارة إلى الأمر المذكور في أوّل السورة فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وقوله وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ ليس بتكرار لأن اللام للعلة والمأمور به محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى: أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين أي مقدّمهم وسابقهم في الدارين فنقول: فائدة التكرار أن ذكر التعليل مع نوع تأكيد. وقيل: اللام بدل من الباء أي أمرت بأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ليصح الاقتداء بي في قولي وفعلي. ولعل الإخلاص إشارة إلى عمل القلب والإسلام إلى عمل الجوارح،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم ليس مثل الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلونها بل له سابقة في كل ما يأمر به وينهى عنه.
وحين بين أن الله أمره بإخلاص القلب وبأعمال الجوارح وكان الأمر يحتمل الوجوب والندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال قُلْ إِنِّي أَخافُ الآية. وذلك أن خوف العقاب لا يترتب إلا على ترك الواجب، وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره خائفا من العصيان فغيره أولى. قيل: المراد به أمته. وقيل: نزلت قبل أن يغفر الله له. وقالت الأشاعرة: فيه دليل على أن صاحب الكبيرة