للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال «أن تذكر أخاك بما يكره فإن كنت صادقا اغتبته وإن كنت كاذبا فقد بهته» «١»

ثم مثل ما يناله المغتاب من عرض صاحبه على أفظع وجه فقال أَيُحِبُّ إلى آخره. وفيه أنواع من المبالغة منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه، ومنها إسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ ففيه إشعار بأنه لا أحد يحب ذلك، ومنها تقييد المكروه بأكل لحم الإنسان، ومنها تقييد الإنسان بالأخ، ومنها جعل الأخ أو اللحم ميتا ففيه مزيد تنفير للطبع. وإنما مثل بالأكل لأن العرب تقول لمن ذكر بالسوء إن الناس يأكلون فلانا ويمضغونه، وفلان مضغة للماضغ. شبهوا إدارة ذكره في الفم بالأكل. والميت لمزيد التنفير كما قلنا، أو لأن الغائب كالميت من حيث لا يشعر بما يقال فيه. أما الفاء في قوله فَكَرِهْتُمُوهُ ففصيحة أو نتيجة لأنها للإلزام أي بل عافته نفوسكم فكرهتموه. أو فتحققت بوجوب الإقرار وبحكم العقل وداعي الطبع كراهتكم للأكل أو اللحم أو الميت فليتحقق أيضا أن تكرهوا لما هو نظيره وهي الغيبة. وقال ابن عباس: هي إدام كلاب الناس.

وعنه أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوما فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة «لبئر من آبار مكة» لغار ماؤها. فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا: ما تناولنا لحما. فقال: إنكما قد اغتبتما فنزلت.

قلت:

قد تبين في الحديث أن في الآية مبالغة أخرى وهي أنه أراد باللحم الميت المدوّد المنتن المخضر، وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر الحسي عن الأمر المعنوي الذي أدركه بنور النبوّة منهما. واعلم أن الغيبة وإن كانت منهية إلا أنها مباحة في حق الفاسق.

ففي الحديث «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»

وروي «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واتقوا الله فيما نهاكم وتوبوا فيما وجد منكم» .

وحين علم المؤمنين تلك الآداب الجميلة عمم الخطاب منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية.

قال بعض الرواة: إن ثابت بن قيس حين قال «فلان ابن فلانة» قال النبي صلى الله عليه وسلم: من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله. فقال: انظر في وجوه القوم فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت؟ قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين، فأنزل الله هذه الآية.

وعن مقاتل: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد:


(١) رواه أحمد في مسنده ٢/ ٢٣٠، ٣٨٤، ٣٨٦) مسلم في كتاب البر حديث ٧٠ أبو داود في كتاب الأدب باب ٣٥ الترمذي في كتاب البر باب ٢٣ الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>