ثم إنه تعالى بين انتفاء اللازم بقوله وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وبرهن عليه بقوله بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما أسلفوا من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وكتحريف كتاب الله وسائر قبائح أفعالهم. وذكر الأيدي مجاز لأن أكثر الأعمال يتم بمباشرة اليد. وقوله وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً من المعجزات لأنه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر به كقوله وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: ٢٤] وذلك أن التمني ليس من أعمال القلب حتى لا يطلع عليه أحد، وإنما هو قول الإنسان بلسانه تمنيت أو ليت لي كذا، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب. فلو إنهم تمنوا لنقل ذلك كما ينقل سائر الحوادث العظام، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن أكثر من الذرّ. وأيضا لو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك.
وأيضا لولا أنه تعالى أوحى إليه أنهم لم يتمنوا لم يكن في العقل رخصة الإقدام على مثل هذا الإلزام، لأنه في غاية السهولة، وإذا ثبت انتفاء اللازم ثبت انتفاء الملزوم بالضرورة وهو أن لا تكون الدار الآخرة لهم خالصة، وأما أنها ليست لهم بالاشتراك أيضا، فيستفاد من الآية التالية. وفي قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ إشارة أيضا إلى ذلك لأنه إذا كان محيطا بسرهم وعلانيتهم وقد قدموا من القبائح ما قدموا فيجازيهم بما يحقون له. وفي وضع الظاهر وهو بالظالمين مقام المضمر وهو بهم إشارة أخرى إلى سوء منقلبهم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: ٢٢٧] واللام إما للعهد وإما للجنس، فيشملهم أولا وغيرهم من الظلمة ثانيا. فإن قيل: ما الفائدة في قوله هاهنا وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ وفي سورة الجمعة وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ [الجمعة: ٧] ؟ قلنا: لأن الدعوى هنا كون الدار الآخرة خالصة لهم، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس، والأول مطلوب بالذات، والثاني وسيلة إليه، فناسب أن ينفي الأول بما هو أبلغ في إفادة النفي وهو «لن» ، أو لأن الدعوى الثانية أخص فإنه لا يلزم أن يكون كل من له الدار الآخرة وليا بمعنى أنه يلي النبي في الكمال والإكمال، ونفي العام أبعد من نفي الخاص كما أن إثبات الخاص في قولك «فلان ابن فلان موجود» أبعد من إثبات العام في قولك «الإنسان موجود» . فحيث كانت الدعوى الأولى أبعد احتيج إلى أداة.
هي في باب النفي أبلغ. ثم إنه سبحانه لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت، أخبر بعد ذلك أنهم في غاية الحرص على الحياة، لأن هاهنا قسما ثالثا وهو أن لا يتمنى
(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ١٤- ١٨. الترمذي في كتاب الجنائز باب ٦٧. النسائي في كتاب الجنائز باب ١٠. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٤٣. الموطأ في كتاب الجنائز حديث ٥١.