للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بطريق الرسالة، وهكذا لو كان المراد جبرائيل. وفي وصفه بالكرم إشارة إلى أمانته وأنه ليس ممن يغير الرسالة طمعا في أغراض الدنيا الخسيسة. وأيضا من كرمه أنه أتى بأفضل أنواع المزايا والعطايا وهو المعرفة والإرشاد والهداية. وإنما قال عند نفي الشعر عنه قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وعند نفي الكهانة قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس. أما من حيث اللفظ فظاهر لأن الشعر كلام موزون مقفى وألفاظ القرآن ليست كذلك إلا ما هو في غاية الندرة بطريق الاتفاق من غير تعمد، وأما من جهة التخيل فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند. وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف. على أن كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها. وأيضا في القرآن سب الشياطين وذم سيرتهم والكهان إخوان الشياطين فكيف رضوا بإظهار قبائحهم. ثم صرح بالمقصود فقال تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي هو تنزيل ثم بين أن المفتري لا يفلح وإن قرض أنه نبي فقال وَلَوْ تَقَوَّلَ وهو تكلف القول من غير أن يكون له حقيقة والْأَقاوِيلِ جمع أقوال. وقال جار الله: في اللفظ تصغير وتحقير كالأعاجيب والأضاحيك كأنه جمع «أفعولة» من القول. ومعنى الآية لو نسب إلينا قولا لم نقله لقتلناه أشنع قتل وهو أن يؤخذ بيمينه وتضرب رقبته وهو ينظر إلى السيف، وهذه فائدة تخصيص اليمين لأن القتال إذا أخذ بيسار المقتول وقع الضرب في قفاه. ومعنى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لأخذنا بيمينه، وكذا قوله لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ لقطعنا وتينه وهذا تفسير منقول عن الحسن البصري. والوتين العرق المتصل من القلب بالرأس فإذا انقطع مات الحيوان: قال ابن قتيبة: لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه كما يفعل الملوك فكان كمن أخذ بيمينه فقطع وتينه ونظيره «ما زالت أكلة خبير تعاودني، فهذا أوان اقطع أبهري» . والأبهر عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال: هذا أوان يقتلني السم. وعن الفراء والمبرد والزجاج أن اليمين القوة وقوة كل شيء في ميامنه والباء زائدة ومعنى الأخذ السلب أي سلبنا عنه القدرة على التكلم بذلك القول وهذا كالجواب في حكمة الله تعالى كيلا يشتبه الصادق بالكاذب.

وقال مقاتل: اليمين الحق كقوله إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات: ٢٨] أي من قبل الحق. والمعنى منعناه بواسطة إقامة الحجة وقضينا له من يعارضه فيه فيظهر للناس كذبه فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ أي عن الرسول أو عن القتل، والخطاب للناس وأحد في معنى الجمع لأنه في سياق النفي فلذلك قال حاجِزِينَ أي مانعين. وحين بين أن القرآن تنزيل من عند الله بواسطة جبرائيل على محمد الذي صفته أنه ليس بشاعر ولا كذاب، بين أن

<<  <  ج: ص:  >  >>