للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ حم السجدة فرجع وقال لبني مخزوم: والله لقد سمعت آنفا من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن. إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى،

ولا ريب أن من عرف هذا القدر ثم زعم أن القرآن سحر فإنه يكون معاندا، والعنيد هو الذي كان العناد خلقه وديدنه فلشدة عناده وصفه الله تعالى به. وتقديم الظرف يدل على أن عناده كان مختصا بآيات الله وإن كان تاركا للعناد في سائر الأمور. وفي جمع الآيات إشارة إلى أنه كان منكرا للتوحيد والنبوة والبعث وغير ذلك من دلائل الدين ومعجزاته ولهذا أو عده الله سبحانه أشد الوعيد قائلا سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أي سأصعده عقبة شاقة المصعد وفيه قولان: أحدهما الظاهر وهو ما

روي عن النبي «الصعود جبل من نار يصعد فيه خمسين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا» «١»

وعنه صلى الله عليه وسلم «يكلف أن يصعد عقبة من النار كلما وضع عليها يده ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت»

الثاني إنه مثل لما سيلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق كما مر في قوله يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الجن: ١٧] ثم فسر كيفية عناده بقوله إِنَّهُ فَكَّرَ ماذا يقول في القرآن وَقَدَّرَ في نفسه كلاما فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ وهذا الكلام ما ينطق به العرب عند التعجب والاستعظام يقولون: قتله الله ما أشجعه. وقاتله ما أشعره، وأخزاه ما أظرفه.

والمراد أنه قد بلغ المبلغ الذي حق له أن يحسد فيدعى عليه. والمعنى في الآية التعجب من قوة خاطره. أنه كيف استنبط هذه الشبهة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بحيث وأفق غرض قريش كما حكينا وهي بالحقيقة ثناء على طريق الاستهزاء. ومعنى ثُمَّ الداخلة في تكرير الدعاء الدلالة على أن التعجب في الكرة الثانية أبلغ من الأولى، أو هي حكاية لما كرره من قوله تعالى قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ويجوز أن يكون التقدير الأخير تقديرا للتقدير أي ينظر فيه بتمام الاحتياط فهذا ما يتعلق بأحوال قلبه. ثم وصفه بأحوال ظاهره قائلا ثُمَّ نَظَرَ في وجوه القوم ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ قال الليث: عبس عبوسا إذا قطب ما بين عينيه فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح وَاسْتَكْبَرَ عن الإيمان ويحتمل أن يقال: قدر ما يقوله ثم نظر فيه احتياطا والدعاء بينهما اعتراض، ثم قطب في وجه النبي ثم أدبر عن الحق واستكبر عنه.

ومعنى «ثم» في هذه الأفعال سوى فعل الدعاء الثاني المهلة. والفاء في قوله تعالى فَقالَ للدلالة على أنه كما تولى واستكبر ذكر هذه الشبهة، أو أن الكلمة لما خطرت بباله بعد التفكر لم يتمالك أن نطق بها من غير تراخ. وقوله يُؤْثَرُ من الأثر بالسكون الرواية كما مر أو من الإيثار أي هو مختار على جميع أنواع السحر. قوله إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ جار


(١)
رواه الترمذي في كتاب جهنم باب ٢. تفسيره سورة ٧٤ باب ٢. بلفظ «سبعين» بدل «خمسين» .

<<  <  ج: ص:  >  >>